صبحي دقوري
حكاية
كان “دارا” يمشي في شوارع المدينة الأوروبية كما يمشي غريبٌ يعرف أنه ليس غريباً تماماً. العالم لا يخيفه، لكنه لا يعترف به أيضاً. كان يشعر أنه ككلمة كورديّة ضائعة في كتاب لا يعرف لغتها. ومع ذلك، كان يمشي بثقة، كما لو أن خطواته تحمل وطأة أسلافه الذين عبروا الجبال بلا خرائط.
في تلك الليلة، حين هبط الضباب على الأبنية العالية، أحسّ أن المدينة تعيد تشكيله. كل شاشة تمرّ أمام عينيه تتحدّاه: صور، أخبار، أرقام، توصيات رقمية تقترح عليه ماذا ينبغي أن يرى، كيف يحبّ، كيف يغضب، وكيف يفكّر.
ضحك ساخرًا وقال في نفسه:
«يريدون أن يعلّموني كيف أكون؟ كأنّهم لم يفهموا بعد أنّني وُجدتُ خارج ما يمكن تعليمُه.»
جلس في مقهى صغير، وفتح هاتفه. ظهرت أمامه خوارزمية تقترح عليه “تحسين نصوصه الكوردية”.
ابتسم، لا ازدراءً، بل تحدّياً.
وقال بصوت منخفض:
«لن تتحسّن لغتي عبرك. أنتِ ستتغيرين بي، لا أنا بك.»
كانت جملة نيتشوية بلا أن يدري:
ترفض أن تُكوَّن، وتصرّ على أن تُكوِّن.
في تلك اللحظة، بدا له أن العولمة ليست عاصفة تريد أن تُسقط هوية شعبه، بل امتحاناً قاسياً لقوّة الإرادة.
من لا يملك إرادة التحوّل سيسقط.
ومن يملكها سيحوّل السقوط نفسه إلى صعود.
تذكّر دارا طفولته في القرية. تذكّر الجبل الذي كان يقف شامخاً فوق القرية كل صباح، كأنه يردد على مسامع البشر:
«ارتفعوا. من لا يرتفع يسقط.»
تذكّر كيف قال له الجدّ يوماً:
«الأرض لا تمنحنا الهوية. نحن الذين نمنح الأرض هويتها.»
وكان يعلم أنّ الجدّ لم يكن فيلسوفاً، لكنه كان أقرب إلى الفلسفة من كثيرٍ ممن قرأوا الكتب.
عاد إلى واقعه.
الذكاء الاصطناعي أمامه، العالم من حوله، والهوية معلّقة بينهما مثل وترٍ مشدود.
كانت أحياناً تبدو له هشّة، وأحياناً أخرى قوية كضربة مطرقة.
قال:
«ليس الخوف أن تُمحى الهوية، بل أن نرتضي لأنفسنا هويةً لا تُصارع العالم، بل تتجنبُه.»
ثم فتح ملفاً جديداً وكتب أول جملة:
«أنا كورديّ لأنني أريد أن أكون، لا لأنني وُلدتُ كذلك.»
كانت الجملة تشبه إعلاناً للخلق، لا وصفاً للانتماء.
إنّ الهوية، بالنسبة إليه، ليست دمًا ولا تراثًا ولا حدودًا؛ بل فعل إرادة، حركة نحو الأعلى، ترديد دائم لفكرة واحدة:
“كن ما تريد، لا ما أُريد لك أن تكون.”
لقد أدرك أن الخطر في العولمة ليس أنها تُضعف الشعوب، بل أنها تُضعف من لا يمتلك إرادة الصعود.
وأدرك أن الذكاء الاصطناعي ليس عدوّاً، بل مرآة: قد تجعلك عظيماً إذا أردت أن تكون عظيماً، أو تجعل هشاشتك أكثر وضوحاً إذا اخترت أن تختبئ خلف الماضي.
وقف من مكانه، وكأنه ينهض من جلسته داخل نفسه.
كان يشعر بقوةٍ لم يعرفها من قبل، كأن اللغة التي كُتبت عنه طوال قرن عادت لتكتب نفسها من جديد.
وقال بصوتٍ يكاد يُسمَع في المقهى كلّه:
«لن أنتظر اعترافاً من أحد. سأصنع حضوري بنفسي. سأخلق هويةً لا يستطيع العالم أن يبتلعها، لأنني لن أسمح لها أن تكون قابلة للابتلاع.»
خرج إلى الشارع، والضباب ما يزال يغطي المدينة.
لكن داخله لم يعد ضبابياً.
وقال وهو يمشي:
«العالم يتغيّر؟ فلْيتغيّر.
ما دام في روحي جبلٌ يصعد، لن أنزل.»
وهكذا بدا له أن الهوية الكوردية ليست شيئاً يحدث للكورد، بل شيئاً يحدُث من خلالهم.
هي ليست قصة تُروى، بل إرادة تُمارَس.
وليست ماضياً نحمله، بل مستقبلاً نخلقه.
ومَن لا يخلق، لا يستحق أن ينتمي.