إبراهيم جمعة… (موسيقى القلب، وعزف الروح)

 

محمد إدريس *

 

في ذلك المشهد الإماراتي الباذخ، حيث تلتقي الأصالة بالحداثة، يبرز اسم إبراهيم جمعة كأنه موجة قادمة من عمق البحر، أو وترٌ قديم ما زال يلمع في ذاكرة الأغنية الخليجية. ليس مجرد ملحن أو باحث في التراث، بل حالة فنية تفيض حضورًا، وتمنح الفن المحلي روحه المتجددة؛ جذورٌ تمتد في التراب، وأغصانٌ تعانق السماء.

يمتلك إبراهيم جمعة قدرة ساحرة على صهر جماليات الفنون الشعبية صهرًا لا يطفئ توهجها؛ يعيد تشكيلها في قوالب موسيقية حديثة، ويترك فيها نبضها الأول حيًّا، يمشي معنا ويتنفس. ولهذا، حين تُذكر الفنون البحرية، أو “الليوا”، أو خطوات العيّالة الراقصة على الرمل، ينهض اسمه كجزء من هوية لا تغيب.

وليس غريبًا أن يتعامل مع كبار الأصوات الخليجية والعربية: من حسين الجسمي إلى أبو بكر سالم، وراشد الماجد، والرويشد وغيرهم. كان في كل لحن يبرهن أن الفن الحقيقي لا يرسم حدودًا ولا يعترف بخرائط.

لكن سرّ الرجل — ذاك السر الذي لا يُحكى — يكمن في روحه؛ في عفويته التي تسبق كلماته، وفي ضحكته التي تولد قبل تحيته. يمتلك خفّة ظل ناعمة، صادقة، شفافة؛ كأنها جزء من موسيقاه أو امتداد لنبضه.

بعد انتهاء الأمسية الشعرية التي أقيمت في ندوة الثقافة والعلوم بدبي، تحت عنوان «في حب الإمارات»، صادفني بهدوئه الجميل وروحه الوضيئة، فوجدتني أمام فنان عتيق ومتجدد في آن. صافحته، فبادلني السلام وابتسامة تتسع كأنها نافذة تُفتح على ألف حكاية. قلت له:

— «أتود أن أسمعك شيئًا من شعري في حب الإمارات؟»

فأجاب بمرحهالمعتاد:

— «هات… اسمعني.»

ألقيت عليه مقطعًا من قصيدتي الأخيرة، والتي أقول فيها:

«جنة خضراء…

إليها تهفو القلوب،

وإليها ترنو المُقل،

في صباحاتها يحلو اللقاء…

وفي مساءاتها تحلو القُبَل.»

 

وما إن بلغت آخر كلمة، حتى رأيت في عينيه لمعانًا يشبه دهشة طفل يسمع أغنية لأول مرة. ضحك وقال:

— «تحلو القُبَل؟!… أعجبتني هذه الجملة؛ تحلو القُبَل!»

كانت ضحكته كافية لتمحو المسافة بين شاعر وفنان، ولتجعل اللحظة خفيفة كغمامة، قريبة كنبضة. لحظة أدركت فيها أن الفنان الكبير يظل إنسانًا جميلًا قبل أي شيء؛ يلتقط الطرفة كما يلتقط اللحن… ببساطة، وبقلب يعرف معنى المحبة.

ذلك هو إبراهيم جمعة: مزيج من التراث والحداثة، من الجدية التي تُبقي الفن واقفًا، وخفة الظل التي تمنحه جناحين. يذكّرنا دائمًا بأن الموسيقى ليست نغمًا فحسب، بل سلوكًا وروحًا ولقاءً صادقًا بين قلبين. وأن الإمارات — بواحاتها الخضراء وقلوب ناسها — تستحق أصواتًا من عبقها وتراثها، تحفظ ذاكرتها، وتزيدها جمالًا وألقًا وسحرًا.

 

*شاعر وكاتب فلسطيني.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

شيرين الحسن

كانت الأيام تتسرب كحبات الرمل من بين أصابع الزمن، ولكن لحظة الغروب كانت بالنسبة لهما نقطة ثبات، مرسى ترسو فيه كل الأفكار المتعبة. لم يكن لقاؤهما مجرد موعد عادي، بل كان طقسًا مقدسًا يُقام كل مساء على شرفة مقهى صغير يطل على الأفق.

في كل مرة، كانا يجدان مقعديهما المعتادين، مقعدين يحملان آثار…

 

 

صبحي دقوري

 

حكاية

 

كان “دارا” يمشي في شوارع المدينة الأوروبية كما يمشي غريبٌ يعرف أنه ليس غريباً تماماً. العالم لا يخيفه، لكنه لا يعترف به أيضاً. كان يشعر أنه ككلمة كورديّة ضائعة في كتاب لا يعرف لغتها. ومع ذلك، كان يمشي بثقة، كما لو أن خطواته تحمل وطأة أسلافه الذين عبروا الجبال بلا خرائط.

 

في تلك الليلة، حين…

عِصْمَت شَاهِين الدُّوسْكِي

 

دُرَّةُ البَحْرِ وَالنُّورِ وَالقَمَر

دُرَّةٌ فِيكِ الشَّوْقُ اعْتَمَر

كَيفَ أُدَارِي نَظَرَاتِي

وَأَنْتِ كُلُّ الجِهَاتِ وَالنَّظَر

***

أَنْتَظِرُ أَنْ تَكْتُبِي وَتَكْتُبِي

أَشْعُرُ بَيْنَنَا نَبْضَ قَلْب

بِحَارٌ وَمَسَافَاتٌ وَأَقْدَارٌ

وَحُلْمٌ بَيْنَ أَطْيَافِهِ صَخَب

***

دَعِينِي أَتَغَزَّلْ وَأَتَغَزَّل

فِي عَيْنَيْكِ سِحْرُ الأَمَل

مَهْمَا كَانَ النَّوَى بَعِيدًا

أُحِسُّ أَنَّكِ مَلِكَةٌ لَا تَتَرَجَّل

***

دُرَرٌ فِي بَحْرِي كَثِيرَةٌ

لَكِنَّكِ أَجْمَلُ الدُّرَرِ الغَزِيرَةِ

أَقِفُ أَمَامَ الشَّاطِئِ

لَعَلَّ مَقَامَكِ يَتَجَلَّى كَأَمِيرَةٍ

***

أَنْتِ مَلِكَةُ البَحْرِ وَالجَمَالِ

لَا يَصْعُبُ الهَوَى وَالدلالُ

لَوْ خَيَّرُوكِ…

فواز عبدي

حين وقعت بين يديّ المجموعة الشعرية “مؤامرة الحبر، جنازات قصائد مذبوحة”[1] للشاعر فرهاد دريعي، وأردت الكتابة عنها، استوقفني العنوان طويلاً، بدا لي كمصيدة، كمتاهة يصعب الخروج منها فترددت في الدخول، لكن مع الاستمرار في القراءة وجدت نفسي مشدوداً إلى القصيدة الأولى بما تحمله من غنى وتعدد في المستويات، فهي تكاد تكثف فلسفة…