في تأمّل تجربة الكتابة.. من ارتدادات عدم الفهم إلى احترام وجهات النظر

 

فراس حج محمد| فلسطين

تتعرّض أفكار الكتّاب أحياناً إلى سوء الفهم، وهذه مشكلة ذات صلة بمقدرة الشخص على إدراك المعاني وتوجيهها. تُعرف وتدرّس وتُلاحظ تحت مفهوم “مهارات فهم المقروء”، وهذه الظاهرة سلبيّة وإيجابيّة؛ لأنّ النصوص الأدبيّة تُبنى على قاعدة من تعدّد الأفهام، لا إغلاق النصّ على فهم أحادي، لكنّ ما هو سلبيّ منها يُدرج أحياناً تحت سوء التفسير للنصّ، ولَيّ عنقه ليقول ما لا قدرة للنصّ على أن يقوله، بمعنى آخر: التنطّع في الفهم والتعسّف فيه.

إجمالاً للناس ظروف شتّى ليفهوا النصّ على ما يريدون، وكيف ما يريدون، وهذا من حقّهم دائماً وأبداً. أمّا ما ليس من حقّهم هو العبث بالنصّ وتغيير ألفاظه لدواعي عديدة، منها الفهم القاصر نتيجة الجهل وعدم المعرفة، أو نتيجة عدم القدرة على القراءة السليمة، وهذان ما سأتحدّث عنهما في هذه الكتابة.

في مقال كتبتُه حول كتاب “رسائل من سرّة الأرض” وجعلته تحت عنوان رئيسي “قصّة قراءةٍ”، يخطّئني أحدهم في تعليق على أحد المواقع، كاتباً: “طيّب صلّح اللغة”، ولم يكتب شيئاً آخر، ولم يوضّح مقصوده، أو أين قد أخطأت ممّا دفعني للبحث عن هذا الشخص والتواصل معه، وكتبت له رسالة مستفسراً عن أخطائي المحتملة، حتّى يمكنني أن أصحّحها، وإذ به يعتبرني قد أخطأت في لفظ السرّة، فهي من وجهة نظره يجب أن تكون بالصاد “صرّة” وليس بالسين “سرّة”، وشرح معلّلاً: “الصرّة هي مركز الأرض زي صرّة الإنسان”، عندها ضحكتُ، وتنفّستُ بعمق، وعلمتُ أنَّ محدّثي جاهل باللغة، ولم يكلّف نفسه عناء النظر إلى صورة غلاف الكتاب المصاحبة للنصّ “رسائل من سرّة الأرض”، فأرشدته إلى أنّ عنوان الكتاب بالسين وليس بالصاد على افتراض أنّني قد أخطأت، وأمّا الثانية فقد دعوته إلى مراجعة المعجم، فالكلمة بالسين وليس بالصاد، وشرحت له معنى “الصرّة” واختلافها عن السرّة، واقتبست له من أحد المعاجم هذا السطر: “(وَفِي الْبَطن) السُّرَّة فَأَمّا السرو فَهُوَ الَّذِي تقطعه الْقَابِلَة، وَالَّذِي يبْقى فِي الْبَطن فَهُوَ السُّرَّة”، اكتفى بشكري وتأسّف على إزعاجي، وأبقى تعليقه قائماً، لم يحذفه، يشهد على أخطائي المبهمة، وليس على جهله المطبق، ويبدو أنّه ينطبق عليه المثل الفلسطيني الشعبي “عنزة ولو طارت”!

ذكّرني هذا الموقف بما كنتُ قرأته وكتبت عنه؛ ورود لفظ “السرّة” في رواية د. عزمي بشارة “حبّ في منطقة الظلّ” الذي أصرّ على أن يكتبها بالصاد وليس بالسين، وقد أشرت لذلك في كتابي “الإنقاص البلاغي- المفهوم والتطبيق“. على ما يبدو فإنّ هذا المعنوز- أيْ صاحب العنزة الطائرة- من “جماعة عزمي بشارة” في تفخيم صاد سرّة الجسم لا ترقيقها، وويل لنا نحن الكتّاب من قارئ جاهل مثل هذا!

وأمّا الأمر الآخر فهو المتّصل بالعنوان العامّ “قصّةُ قراءةٍ”، فقد لاحظت أنّ أحد المواقع الإلكترونيّة التي نشرت المقال غيّـرت العنوان وجعلته “قراءة في قصّة”، على الرغم من أنّ كتاب “رسائل من سرّة الأرض” ليس قصّة، ولم يكلّف محرّر الموقع- الذي اتّخذ قراراً بتشويه المقال وفكرته الكليّة- عناء قراءة المقال كاملاً ليكتشف أنّ الكتاب ليس قصّة، وليس المقال قراءة نقديّة لهذه القصّة المزعومة. إنّه على أيّة حال، وإنْ أحسنتُ النيّة معه، لم يستطع أن يفهم المقصود بـ “قصّة قراءة” أو قراءتها بالشكل الصحيح، فظنّ أنّني قد وقعت في خطأ، فعدّل، فزلّت “به إلى الحضيض قدمه”، أراد أن يصحّح ما ظنّه خطأ فوقع في الخطأ الجسيم. إنّه يدفعني إلى التمثل بالمثل الفلسطيني “إجا يكحلها عمى عيونها”.

لقد تواصلت مع الموقع أيضاً، وأعلمتهم بهذه الكارثة “من الفهم السقيم”، وأرسلت لهم هذه الرسالة: “شكراً لكم على نشر الموضوع، لكنّه ليس قراءة في قصّة، وإنّما هذه المادّة جزء من مشروع كبيـر أشرح فيه قصصي مع قراءة الكتب تحت عنوان “قصّة قراءة”. أرجو تعديل الأمر. فأنا لم أخطئ في العنوان لتصحّحوه، وشكراً لجهودكم”.

لم تثمر هذه الجهود، ولم يصحّحوا ما وقعوا فيه من خطأ، وهنا أستذكر بكلّ محبّة وامتنان مسؤول موقع “العرب اليوم” الذي ظنّ أنّ مؤلّف الكتاب كاتبة وليس كاتباً، فأضاف تاء التأنيث ليصبح “للكاتبة نجوان درويش”، فتواصلت مع المسؤول فاستجاب من فوره، لكنّني أعتب عليه؛ إذ لو قرأ المقال قبل نشره لعلم أنّه كاتب وليس كاتبة، فقد تحدّثت عن التباس الاسم خلال المقال، وهذا الالتباس هو ما دعا موقع “ميدل إيست” إلى تعديل عنوان المقال إلى “رسائل من سُرَّة الأرض: من التباس الاسم إلى عمق المعنى”، وقد أعجبني جدّاً هذا العنوان اللافت، مع أنّهم حذفوا العنوان التأسيسي “قصّة قراءة”، فحذفه أهون من العبث به، ويندرج ضمن صلاحيّات التحرير التي لا تغضبني، بل إنّ هذا أمر جيّد، لا سيّما إن جاء التعديل خادماً للمقال، وكاشفاً عن شيء من أفكاره.

على أيّة حال، هذه الارتدادات من سوء الفهم، مظهر من مظاهر الكتابة، ويا ليت أنّهم عندما يقرّرون التغيير يتواصلون مع الكاتب، كما يفعل رئيس تحرير مجلّة عود الندّ؛ صديقي الدكتور عدلي الهوّاري الذي إنْ شكّ في معلومة ما أو أراد أن يغيّـر لعدم قناعته فإنّه يتواصل معي، ونتحاور؛ فإمّا أن أقتنع، أو فإنّه يترك الأمر لي لأتحمّل مسؤوليّة قراري في إبقاء المقال على ما هو عليه، وإليكم هذه الرسالة التي يستفسر فيها الدكتور عن نهاية مقال “سلوكات لا تنتج باحثاً جيّداً” (عود الند: العدد الفصلي 34: خريف 2024):

“شكراً على تواصلك مع مجلّة “عود الندّ” الثقافيّة. ألقيت نظرة على موضوعك، وهو طبعاً مقبول للنشر في العدد القادم. لفت نظري اختتام المقالة بإشارة إلى آلان دونو. بالشكل التي هي عليه، تفترض أنّه معروف، وأنّ الجميع يعرف محتوى ما قاله عن نظام التفاهة. الإشارةالعابرة  إليه لا تعزّز حجّتك المترابطة في المقالة، لذا من الممكن ختم المقالة دون السطر الذي أشرت فيه إليه. إذا كان حذف السطر يجعل الخاتمة مبتورة في رأيك يمكنك إضافة سطر أو سطور. أمّا البديل الثالث، فهو أن تذكر آلان دونو في مكان ما في المقالة مع إشارة موجزة إلى نظام التفاهة وما قاله عن الجامعات. عندئذٍ عندما تختم بالإشارة إليه مرّة ثانية يكون الأمر منطقيّاً ومرتبطاً بما سبقه. أيّ من البدائل الثلاثة مقبول. الأمر يرجع لك”.

شرحت للدكتور عدلي وجهت نظري بالقول: “يغلب على ظنّـي أنّ الربط مع “نظام التفاهة” ضروري، ولو بهذه الإشارة العابرة، فهو [آلان دونو] تحدّث عن شيء مختلف في الحياة الأكاديميّة ليس موجوداً عندنا، فأردت أن يكون المقال وجهاً آخر من وجوه التفاهة، مضافاً لما في كتاب “نظام التفاهة”. وبهذه الحالة، الإشارة كافية، فأنا تحدّثت عن شيء مختلف. هذا التوضيح، ويبقى الأمر لحضرتكم، فإنْ لم يكن التوضيح مقنعاً، فلكم حقّ التصرّف، فكلّي ثقة بكم وبوجهة نظركم”.

بقي الأمر على ما هو عليه، ولم أقم بأيّة تعديلات، ولم يُجر رئيس التحرير أيّة تعديلات، واكتفى بإقرار وجهة نظري برسالة مختصرة يقول فيها “لا بأس” تاركاً الأمر لي لتحمّل مسؤوليّته، وأغلب الظنّ أنّه لم يقتنع بوجهة نظري، فدعم المقال بمادّة مستقلّة من كتاب “نظام التفاهة” نشرها في العدد نفسه، ترتبط بموضوع المقال، وفيها تلك “الإشارة الموجزة إلى نظام التفاهة وما قاله عن الجامعات”، وبذلك يكون قد سدّ الفجوة المعرفيّة التي لاحظها في مقالتي، وهذا أمر جيّد بلا أدنى شكّ، ويدلّ على رئيس تحرير منتبه، ويحتـرم آراء الكتّاب ووجهات نظرهم، حتّـى وإنْ خالفت قناعاته، لكنّه في الوقت ذاته لا يتنازل عن وجهة نظره ومسؤولياته أمام القرّاء والباحثين، لتكون المجلّة موضع ثقة لكلّ من طلب معلومة موثّقة ومقدّمة على وجهها الصائب، بل الأصوب والأدقّ.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عمران علي

 

كمن يمشي رفقة ظلّه وإذ به يتفاجئ بنور يبصره الطريق، فيضحك هازئاً من قلة الحيلة وعلى أثرها يتبرم من إيعاقات المبادرة، ويمضي غير مبال إلى ضفاف الكلمات، ليكون الدفق عبر صور مشتهاة ووفق منهج النهر وليس بانتهاء تَدُّرج الجرار إلى مرافق الماء .

 

“لتسكن امرأةً راقيةً ودؤوبةً

تأنَسُ أنتَ بواقعها وتنامُ هي في متخيلك

تأخذُ بعض بداوتكَ…

 

محمد إدريس *

 

في ذلك المشهد الإماراتي الباذخ، حيث تلتقي الأصالة بالحداثة، يبرز اسم إبراهيم جمعة كأنه موجة قادمة من عمق البحر، أو وترٌ قديم ما زال يلمع في ذاكرة الأغنية الخليجية. ليس مجرد ملحن أو باحث في التراث، بل حالة فنية تفيض حضورًا، وتمنح الفن المحلي روحه المتجددة؛ جذورٌ تمتد في التراب، وأغصانٌ…

 

شيرين الحسن

كانت الأيام تتسرب كحبات الرمل من بين أصابع الزمن، ولكن لحظة الغروب كانت بالنسبة لهما نقطة ثبات، مرسى ترسو فيه كل الأفكار المتعبة. لم يكن لقاؤهما مجرد موعد عادي، بل كان طقسًا مقدسًا يُقام كل مساء على شرفة مقهى صغير يطل على الأفق.

في كل مرة، كانا يجدان مقعديهما المعتادين، مقعدين يحملان آثار…

 

 

صبحي دقوري

 

حكاية

 

كان “دارا” يمشي في شوارع المدينة الأوروبية كما يمشي غريبٌ يعرف أنه ليس غريباً تماماً. العالم لا يخيفه، لكنه لا يعترف به أيضاً. كان يشعر أنه ككلمة كورديّة ضائعة في كتاب لا يعرف لغتها. ومع ذلك، كان يمشي بثقة، كما لو أن خطواته تحمل وطأة أسلافه الذين عبروا الجبال بلا خرائط.

 

في تلك الليلة، حين…