ماهين شيخاني
كانت الكتب متناثرة على أرضية الغرفة كما جثث جنود بعد معركة فاصلة. وقف “شيروان” -زعيم حزب “التحرير الديمقراطي”- يتأمل خراب مكتبته كقائد يزور ساحة هزيمة.
في الأمس القريب: كان على منبر مؤتمر دولي مرموق، يلقي خطاباً عن “الديمقراطية التشاركية” و”حقوق الشعوب في تقرير المصير”، صوته جهوري، حجته قوية، إيماءاته تملأ الشاشات. قال للعالم: “السلطة يجب أن تبدأ من البيت!” وأحسنوا استقبال كلامه.
اليوم: يقف حائراً أمام ” شيرين” زوجته، التي تمسك بمجلد “رأس المال” لكارل ماركس وتقول: “هذا الكتاب وحده يكفي ليكسر رف الكتب..!. مَن يصدق أن ورقة تافهة اسمها ‘بيان شيوعي’ تزن كل هذا الوزن..؟.”
“لكن يا حبيبتي، هذه كلها أفكار…”
“أفكارك تزعج نومي..!.وتشغل حيز بيتي..!.”
المفارقة العبثية: في قاعة المؤتمرات، كان شبروان يحل نزاعاً بين منظري الحزب حول “الدولة ما بعد القومية” مقابل “الفيدرالية التعددية”. استخدم مصطلحات هيغل ومنظرين معاصرين. نجح في إقناع الجميع.
أما في البيت، فعندما حاول تطبيق “نظرية العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو مع شيرين:
· “لو نتفق على عقد اجتماعي عائلي…”
· قاطعه بصوت حاد: “عقدي الاجتماعي يقول: إما الكتب أو أنا..!.”
الذروة المأسوكوميدية: عندما سافرت شيرين لزيارة أهلها، استغل شيروان الفرصة الذهبية. أعاد المكتبة إلى مجدها السابق. رتب “ثورة المستضعفين” لغاندي بجوار “الوجود والعدم” لسارتر، ووضع “أصل الأنواع” لداروين فوق “النسويّة وما بعدها” لسيمون دي بوفوار.
عادت شيرين. دخلت الغرفة. سكتت سكتة طويلة. ثم انفجرت:
“ألم أقل لك..؟.الأرفف لن تتحمل..!.”
“لكن هذه مكتبة فلاسفة العالم..!.”
“وأنا فلاسفة بيتي..!.وهذه قوانين الفيزياء التي لا تعترف بأحزابك..!.”
صراخها اخترق الجدران. الجيران في العمارة كلها يسمعون. وهو -الذي كان قبل ساعات يخطب في “سيادة القانون”- يهمس: “نحن في دولة قانون… وهذا تعدّ على حرية الفكر…”
من مفارقات الحياة:
· كان يخبئ “الرمز والمعنى” لكاسيرر داخل غطاء وسادة، كمناضل سري.
· مرة وجدت شيرين كتاب “تحليل الأحلام” لفرويد تحت مخدتها، فسألته: “هل تحلم بي أم تحلّلني..؟.”
· حاول أن يشرح لها “الديالكتيك المادي” لماركس عندما اشتكت من فاتورة الكهرباء. ردت: “المادية تعني أن تدفع الفاتورة، لا أن تفسرها ديالكتيكياً..!.”
في عزلته الفكرية: بين أوراق استراتيجيات التحرر وخرائط تقسيم السلطة، يسأل شيروان نفسه:
“كيف أقنعتُ منظمات حقوق الإنسان بعدالة قضيتي، ولم أقنع زوجتي بعدالة وجود مكتبتي..؟.”
“كيف قادتُ حملات دولية، وفشلت في قيادة حملة ‘إنقاذ الكتب’ في بيتي..؟.”
“هل نظريات فوكو ودريدا وتشومسكي تصلح لتحرير الشعوب،وتعجز عن تحرير رف كتب..؟.”
الاكتشاف المُرّ: في إحدى الليالي، بعد اجتماع مطول مع سفير أوروبي، عاد إلى البيت متأخراً. وجد على المنضدة كتاباً جديداً وضعته شيرين: “فن الإقناع في الحياة الزوجية” لطبيب نفسي أمريكي. مع ملاحظة مرفقة: “اقرأ هذا قبل أن تتحدث عن فن إقناع الأمم المتحدة..!.”
أدرك شيروان الحقيقة المرة: أن أقوى مقاومة واجهها في مسيرته لم تكن من نظام سياسي، بل من نظام حب لا يعترف بشرعية الأحزاب، ولا يخضع لنظرية الثورة الدائمة، ولا يؤمن إلا بسيادة المشاعر البسيطة.
التساؤل الأخير: وهو يتصفح صور زعماء التاريخ – بعضهم غيّر خرائط العالم، وبعضه قاد ثورات فكرية – يسأل نفسه: “كم من هؤلاء العظماء كان يستسلم في بيته..؟. كم فيلسوف غيّر وعي الإنسانية، وكان يختبئ من غضب زوجته..؟.”
لعل أعظم مفارقة في حياة القادة أن يكونوا أحراراً في ساحات الفكر، أسرى في غرف النوم، ومحاصرين في مطابخ البيوت. وأن تبقى “الديمقراطية التشاركية” حلماً نظرياً، بينما “الدكتاتورية العاطفية” هي الدستور العملي الوحيد الذي لا يستطيعون تعديله.
الحكمة الخفية: ربما تحتاج كل القضايا الكبرى إلى قادة يفهمون أن بعض المعارك لا تُربح بالخطابات، بل بالزهور. وأن تحرير رف الكتب يتطلب دبلوماسية أكثر مما تتطلبه تحرير الأوطان. لأن من يستطيع التفاوض على سلم المشاعر، قد يكون أجدر بقيادة مفاوضات السلام.