بوّابة الصمت

عبدالجابر حبيب

 

يا صديقي

بتفصيلٍ ثقيلٍ

شرحتُ لكَ معنى الأزقّةِ،

وكيفَ سرقتْ منّي الرِّياحُ وجهَ بيتِنا الصغيرِ،

لم يكنْ عليَّ أن أُبرِّرَ للسّماءِ

كيفَ ضاعتْ خطواتي بينَ شوارعَ غريبةٍ،

ولم يكنْ عليَّ أن أُبرِّرَ للظِّلالِ

كيفَ تاهتْ ألوانُ المساءِ في عينيَّ،

كان يكفي أن أتركَ للرِّيحِ

منفذاً خفيّاً بينَ ضلوعي،

أو نافذةً مفتوحةً في قلبي،

فهي وحدَها تعرفُ

من أينَ يأتي نسيمُ الحنينِ.

كلُّ ضوءٍ يُذكِّرُني ببيتِنا القديمِ

يتلاشى ظلّاً بلا نهايةٍ،

وكلُّ ركنٍ في المدينةِ

يُحاولُ أن يُخفيَ عنّي وجهاً،

لولا أنَّ شظايا الذاكرةِ

سرَّبتْ إليَّ أيّامَ طفولتي.

تركتُ للغيمِ

عبوراً صامتاً على كتفي،

فهو وحدَه يعرفُ

مكانَ كلِّ فقدٍ مهما صَغُرَ.

كلُّ نافذةٍ أمرُّ بها

تُعيدُ إليَّ ترتيبَ صدى الأيّامِ،

وكلُّ حجرٍ في الطريقِ

يُخفي عنّي ما تركتَه ورائي،

ما زالتْ

الأصواتُ والوجوهُ

تُذكِّرُني بكَ.

هل تدري

أنَّ الضوءَ لا معنى له بلا عتمةٍ،

وأنَّ الطريقَ التي لم أمشِ فوقَها

زرعتْ في ذاكرتي خريطةً

بنيتُ تفاصيلَها في الخيالِ.

كلُّ بيتٍ تركتُه

علَّمني الصمتَ في حضرةِ غيابٍ،

وكلُّ بابٍ أُغلقَ أمامي

تركَ وراءَه ثقباً صغيراً

تدخلُ منه لحظةُ فرحٍ عابرةٍ،

بوّابةَ صمتٍ طويلٍ،

لا يُدركُها إلّا من اعتادَ عذابَ الفقدِ.

أنا — ودونَ أن أشعرَ —

أحملُ في قلبي صوراً قديمةً،

تُعيدُ لي ترتيبَ الملامحِ في كلِّ مساءٍ،

تمامًا، كما يُعيدُ النهرُ بعدَ فيضانِه

رسمَ الضفافِ.

يا صديقي

ماذا بعدَ أن تعلَّمتَ الصمتَ؟

وماذا بعدَ أن أدركتَ

أنَّ الغربةَ ليستْ زمنًا،

هو عشقٌ يتحرَّكُ

بينَ غربتينِ؟

لا شيء يُكمِلُ الأشياءَ،

كلُّ ما يحدثُ،

أنَّ الضوءَ

يبحثُ عن الزوايا المهمَّشةِ

في مدينةٍ باتتْ بلا أضواءٍ.

يا صديقي

حينَ تتوقَّفُ عندكَ ذكرياتي،

أجدُ العالمَ كلَّه

يمرُّ بجانبي دونَ أن يلتفتَ إليَّ،

وكلُّ شيءٍ يتعلَّمُ منّي معنى الصبرِ.

وأجلسُ وحدي في منتصفِ العزلةِ،

أحاولُ جاهداً إصلاحَ ما لم يُفسده الزمنُ،

لا وعدٌ يلوحُ هناك،

ولا تهديدٌ يطرقُ البابَ هنا،

فقط هدوءٌ حذِرٌ،

يتسلَّلُ ببطءٍ إلى روحي،

إلى جسدٍ صارَ مأوىً للعزاءِ.

يا صديقي

أسمعُ تنهُّداتِكَ المبتورةَ،

أسمعُ خطواتِكَ الواحدةَ تلوَ الأخرى،

كنتُ أحسبُها دعاءً،

حتّى ظننتُ — في لحظةٍ ما —

أنَّ كلَّ شيءٍ قد انتهى،

إلى أن رأيتُ ابتسامتَكَ الأخيرةَ

تُبهجُ قلبي.

وما زلتُ أسألُ

من أينَ جاءتْ تلكَ الفرحةُ.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لَيْسَ الاستبدادُ حادثةً عابرةً في تاريخِ البَشَرِ ، بَلْ بُنْيَة مُعَقَّدَة تَتكرَّر بأقنعةٍ مُختلفة ، وَتُغَيِّر لُغَتَهَا دُونَ أنْ تُغيِّر جَوْهَرَها . إنَّه مَرَضُ السُّلطةِ حِينَ تنفصلُ عَن الإنسانِ ، وَحِينَ يَتحوَّل الحُكْمُ مِنْ وَظيفةٍ لِخِدمةِ المُجتمعِ إلى آلَةٍ لإخضاعه .

بَيْنَ عبد الرَّحمن الكواكبي (…

غريب ملا زلال

يتميز عدنان عبدالقادر الرسام بغزارة انتاجه، ويركز في اعماله على الانسان البسيط المحب للحياة. يغرق في الواقعية، يقرأ تعويذة الطريق، ويلون لحظاتها، وهذا ما يجعل الخصوصية تتدافع في عالمه المفتوح.

عدنان عبدالقادر: امازون الانتاج

للوهلة الاولى قد نعتقد بان عدنان عبدالقادر (1971) هو ابن الفنان عبدالقادر الرسام…

 

ا. د. قاسم المندلاوي

 

عامودا:

مدينة الفن والحب والجمال، تابعة لمحافظة الحسكة، وتبعد عنها 80 كم. تقع في شمال شرق اقليم كوردستان الغربي، وعلى الحدود مع تركيا وقرب مدينة قامشلو. معظم سكانها من الكورد مع اقليات عربية ومسيحية. يمر فيها نهر باسم “نهر الخنزير”.

اسست المدينة على يد مهاجرين سريان هربوا من تركيا في اعقاب مذابح…