وحش الذكريات العنيد

نصر محمد / المانيا 

#كيف أهرب؟ و ما زالت الذكريات تطاردني، والشوق يؤلمني في كل مساء. أبحث عن شيء جديد، لعلني أجد مخرجا من ذاكرتي الجميلة التي سكنتني أكثر من أن أسكنها. بعد الإنتهاء من كتابة هذه الكلمات وأنا جالس في مقهى “اكسترا بلات” في مدينة هيرنة الألمانية وبين يدي رواية (الوحش الذي في داخلي) للصديق الروائي الكردي حليم يوسف Halim Youssef ، وأقرأ الرواية وكأنما أقرأ نفسي، أقرأ ذاكرتي (في تلك السويعات المتأخرة من الليل المسكون يصمت النيام، لم تكن البلدة الصغيرة المرمية في أقاصي البلاد تختلف عن غيرها من البلدات والمدن الاخرى، سوى بحشرجة إمراة تنتظر المخاض في بيت الحاج محمود. كان الخوف على أشده من ان يحدث اي مكروه للزوجة التي عجزت الداية الخبيرة عن فعل أي شيء يشير الى إحتمال مجيء المولود الجديد بسلام الى هذا العالم المغرق في صمت مبهم خارج هذا البيت. مع إقتراب موعد انبلاج الفجر إزدادت حالة الزوجة سوسن سوءا، لم تكن تهدأ ولم تنجح الداية في مساعيها الحميمة لدفع الطفل الى المجيء)

#عاد بي شريط الذكريات إلى أيام الشباب والمراهقة.

تذكرت صديقي الذي وقع في حب برفين، أو أنه كان قد وقع في حب إسم يشبه إسم برفين. كان يكتب على الجدران (تسقط الحكومة وتعش حبيبتي).

#لقد هام بها كثيرا، كان يحاور ملامحها، يتغزل بعينيها السوداوين وأنفها الصغير، وشفاهها المرسومة بدقة متناهية، ووجهها المضيء. كان يصف تفاصيل نظرتها، بسمتها، خطوط وجهها، عمق صمتها، وشعرها المسدول على كتفيها.

#كان يتغزل بأعمدة الإنارة، لأن نورها يشبه عينيها المتلألئتين. كفه التي إعتاد أن يلوح بها لكل المارة، لم يتعب من مدها. هو فقط أراد أن يمسح كل العابربن من حوله ويحتفظ بوجهها المضيء. كان يتوسد الأرض ويتذكر ملامحها، كان يمد كفه لجدول الماء وهو يحاول عبثا أن يلمس صورة وجهها المنعكسة في المياه، كانت تلك مياه روحه الهائمة بها. كان يحدث نفسه طويلا عن شوقه لها، فقد أخبر أحد الأطفال أن وجه حبيبته أكثر صفاء من وجهه. كان هو يحبها كثيرا، وكانت هي تحب نفسها كثيرا. كنت مشغولا بلا عدالة الحب عندما سألتني النادلة الألمانية إن كنت أريد شيئا، فطلبت كوبا من الكابتشينو. وتزاحمت أحداث تلك الأيام مرة اخرى. أيقظت الرواية وحش الذكريات في داخلي

#ففي أحد الأيام وفي الصباح استيقظت على صوت العم محمد سعيد

الذي يعمل على العربة ذات الثلاثة دواليب. كان يبيع الخضار والفواكه، وهو متعب الوجه على الدوام. عيناه تلفان المكان ولا أحد يقترب منه أو يشتري منه أي شيء. كان بائس الملامح، لكنه كان يتوكل على الله دائما. كان العم محمد سعيد مجبولا بحب التراب، يحب الأرض كثيرا ولا يحبه كل من يعيش على وجه الأرض. أخذني الشرود الى أيام الصبا والشباب.

#أتى الصديق عبدالقادر رمضان الملقب ب(أبو فلك) لأرافقه الى حارة نجاري في الجنوب الغربي من مدينة عامودا ، لزيارة الصديق (بوظان برازي)

ذلك الملاك الطّاهر الهادئ الّذي عانى من الإهمال والفقر والحلّ والتّرحال.

كان مهووساً بالعلم والفلك والشّطرنج، فأبدع في هذه المجالات. وكان يهوى مطالعة الكتب والدّواوين.

كان خيّاطاً ولاعباً لبناء الأجسام أيضاً، يهتمّ بصحّته ويلتزم بحضور مناسبات الجيران والأصدقاء. لولا وضعه المادّي السيء لوجدنا له كتباً وأعمالا أدبيّة ثمينة ربما. رغم بقائه في دير الزّور والرقّة لفترة من فترات عمره، إلّا أنّه أراد الخلود في ربوع مدينته المتواضعة البسيطة. كان يحفظ الشّعر والأقوال والكثير من المعلومات، ويملك ذخيرةً كبيرة من الحجج والبراهين الّتي تؤيّد أقواله وفكره، حتّى أنّه كان يملي على الحضور في مجالس عامودا ألفيّة ابن مالك الّتي حفظها عن ظهر قلب دون أيّ تلعثم أو نسيان، على الرّغم من أنّ عدد أبياتها يصل ل ١٠٠٢ بيت شعريّ.

لم يبارح عامودا إلى أن وافته المنيّة سنة ٢٠١٤ لتنطفئ تلك الأضواء الزّاهية برحيله

#أنتبهت أخيرا الى أن الفناجين والكؤوس أمامي فارغة تماما. وعلى الطاولة إلى جانب رواية “الوحش الذي في داخلي” ثمة سيل صغير من الذكريات يتدفق دون توقف، بقي الوحش داخل الرواية نائما، فيما استيقظ في داخلي وحش الذكريات وهو يحدق في عيني متحديا رغبتي بمغادرته لي على الفور لأرتاح. لم يغادر الوحش داخلي، رغم مغادرتي المقهى منذ زمن طويل.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…