خالد بهلوي
مهرجانات الشعر الكردي ليست مجرد فعاليات أدبية تُقام سنوياً، بل تُعتبر رمزاً من رموز الصمود الثقافي لشعب ظلّ مُنع من التعبير عن لغته وهويته لعقود طويلة، خاصة في سوريا. فاللغة الكردية، التي حُرمت في سياقات عديدة من الظهور والتداول العلني، عادت لتكون منبراً للحرية ووسيلة لتأكيد الهوية من خلال الشعر، الذي يُعتبر من أهم الأدوات الأدبية في نقل المشاعر وتجسيد الألم والأمل.
شهد مهرجان الشعر الذي أُقيم في مدينة إيسن بألمانيا، برعاية الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكرد واتحاد كتّاب كردستان سوريا وجمعية هيلين الثقافية، في 26 أكتوبر 2024، حضورًا مميزًا من الشعراء والأدباء، وقد أصبح هذا المهرجان تقليدًا سنويًا يحتفي بالموروث الثقافي الكردي ويساهم في إحياء الإرث الشعري وتطويره، حيث ألقى تسعة عشر شاعرًا وشاعرةً نصوصهم، ما بين القصائد التي تعبّر عن الحب والألم، وحتى المواضيع التي تجسد الانتماء للمكان، وخصوصاً عفرين، رمز الجراح والذاكرة الكردية.
جاء افتتاح المهرجان بكلمةٍ من حفيظ عبد الرحمن، حيث أبرز دور المهرجان في دعم وتطوير الشعر الكردي وتعزيز حضوره على المنصات الرقمية، مؤكدًا على الأهمية الأدبية والثقافية لهذه الدورة الحادية والثلاثين. ومن ثمّ ألقى الكاتب إسماعيل عمر كلمة باسم الاتحاديين، مبرزًا الدور الحيوي للشعر الكردي في تعزيز الهوية الوطنية وحماية اللغة الكردية التي عانت من محاولات الطمس على مدار سنوات عديدة. وأكد على أن للشعراء والكتاب الكرد مسؤولية ثقافية تجاه لغتهم، حيث أن الكلمة تصبح سلاحًا في مواجهة تحديات محو الهوية.
وفي سياق تكميل الحفل، قدم مروان مصطفى مادةً أدبية تطرّقت إلى مراحل تطور الشعر الكردي وأثره الثقافي والاجتماعي، وقدّمت رؤى فكرية حول التأثير الذي يمكن للشعر أن يتركه في الحياة الكردية، سواء في سوريا أو في الشتات.
تنوّعت النصوص الشعرية ما بين التعبير عن مشاعر الحب والألم وتناول موضوعات الحرب والسلام والهوية، وقد تميزت القصائد بتصوير لافت يعكس مشاعر الكردي نحو أرضه وذاكرته، مؤكدًا على التشبث بالمكان، حيث ارتسمت صور أدبية عميقة عمقت من الرسالة الوطنية. فكانت عفرين الحاضرة الغائبة، الجرح الذي لا يندمل، والتي ألهمت النصوص الشعرية وأثرت في وجدان الحاضرين.
وكان حضور السيدة روجين جكرخوين، ابنة الشاعر الكبير جكرخوين، ذو رمزية خاصة، حيث عبّرت في كلمتها عن تقديرها للشعراء ووصفَتهم بـ”الأبناء” وقالت إنها تشعر وكأنها الأم الحاضنة لهذا الجمع الأدبي، مُشيدةً بما يبذلونه في إحياء إرث والدها والحفاظ على التراث الكردي.
وقد زاد من ألق الأمسية مشاركة الفنانة أفينا ولات، التي غنّت من كلمات الشاعر نذير بالو، حيث تفاعل معها الجمهور، ما أضاف جوًا من التناغم بين الشعر والموسيقى، ليعكس عمق الروابط بين الفنون في الثقافة الكردية.
اختتم المهرجان بكلمة شكر من بافي زوزاني، الذي عبّر عن امتنانه للحضور والشعراء، مؤكدًا أن هذه الفعالية الثقافية تعزز روح الثقافة الكردية في ظل تحديات الواقع، ومعبرًا عن أمل الجميع في استمرار هذا المهرجان في السنوات القادمة بتقديم الأفضل والأكثر تميزًا.
في ظل هذه الأجواء الأدبية المميزة، عبّر الكثير من الحاضرين عن تقديرهم العميق للمهرجان، لما يمثله من فرصة نادرة لتلاقي الشعراء والجمهور في مكان واحد، حيث يجتمعون للاحتفاء بالشعر الكردي وتجديد الروابط الثقافية مع تاريخهم وهويتهم.
كان للحضور الشاب أيضًا دور بارز في هذا الحدث، حيث أشار الشاعر هجار بوتاني إلى أهمية دعم المواهب الشعرية الناشئة وضرورة منحهم الفرصة للمشاركة في المهرجانات القادمة، مؤكدًا أن دمج الأجيال الجديدة في هذه الفعاليات سيعزز من استمرارية الأدب الكردي ويغنيه بأصوات وأفكار جديدة. وتشكّل مثل هذه الفعاليات مساحة للتعبير عن الهموم والتطلعات الوطنية، مما يثري تجربة الأدب الكردي ويعزز هويته اللغوية والثقافية.
على صعيد آخر، تأتي إقامة المهرجان في مدينة إيسن الألمانية كتعبير عن تفاعل المغتربين الكردي مع تراثهم وهويتهم، حيث استطاع الحضور الكردي في المهجر أن يبقي جذور لغته وثقافته حيّة على الرغم من بعد المسافات وتحديات الاغتراب. ويُعتبر هذا المهرجان جسراً بين الكرد في الوطن والمغترب، حيث توحّدهم الكلمة الشعرية التي تعبر عن آمالهم وآلامهم، وتجسد حلمهم في الحفاظ على لغتهم وهويتهم الكردية.
ومع اختتام فعاليات هذا المهرجان، تطلعت الآمال نحو مستقبل يزخر بالمزيد من الفعاليات الأدبية التي تعزز من مكانة اللغة الكردية وترسخ دورها الثقافي والاجتماعي، مؤكدين على أهمية الاستمرار في هذه الأنشطة السنوية كمصدر إلهام ودعم للمجتمع الكردي بكل أجياله.
في النهاية، يبقى مهرجان الشعر الكردي هذا، بما شهده من تفاعل وحضور وتنوع في الأفكار، خطوة هامة نحو إعلاء شأن الأدب الكردي وإحياء ذاكرة الشعب وتطلعاته، ورمزاً للأمل في مستقبل مشرق يضم صوت الكردي وهويته وحلمه بلغة حرة.