ماهين شيخاني
بالرغم من التخدير الكلي لجسدي إلا أنني كنت أسمع أصواتهم المبهمة الآتية من بعيدٍ أو من العالم الآخر ,وهم يتحدّثون ,ويتناقشون حول هذه الحالة الفريدة من نوعها ، بدت عليهم أماراتُ العجز والتّعب ، هؤلاء أشباه الرّؤوس الخضراء المُلثّمة ، و المكمّمة الّذين شكّلوا لجاناً تضمّ المتخصّصين لدراسة المشكلة وقد تجمّعوا فوق رأسي المليء بالمتناقضات والمرفق بطنين مزعج ، حيث تتخللهم أشعة ساطعة كأنها الشمس ، تبهر عيني ، لم أعد أميز شيئاً ؟. ولا أعرف أين أنا ؟؟؟؟؟. ولماذا جاؤوا ..؟! للقبضِ على روحي..؟! أتابعهم في النّظرِ , وأستنشق تلك الرائحة المقيتة الّتي تثير أعصابي ، وتخرجني مكرهاً دون إرادتي.
سمعت أحدهم يقول : لدى إجراء العملية الجراحية للقلب ، تبين لنا آثار صورة فتاة ضمن إطار ألماسي محطم ومتناثر حيث تأثر شغاف قلبه بجروح بالغة لم تلتئم بعد .
– رد آخر: أي قلب يا دكتور ؟ . قل بيضة مفرغة من محتواها، لم نر سوى أطلال قلبٍ تربّعتْ على عرشهِ دودةٌ متوحّشةٌ أفسدت كل شيء من خلال تحرّكها.
– يا إلهي ..! ..هؤلاء المتحلّقون من حولي — إذاً — هم أطبّاء وممرّضون ..!.ثم سألت ذاتي : دودة متوحشة ، وبقايا قلب فارغ ، كبيضة أفرغت من محتواها ، قشور فقط .
وفي اللّحظة تلك وقفتْ سحابةٌ سوداءُ حاجزاً بيني وبينهم لتعيدني بذاكرتي إلى اللّيلة المأساويّة المنصرمة.
حاولت جاهداً لأخلد — ولو بضع دقائق– إلى النّوم ؛ لأنّ تباشير الصّبحِ قد لاحتْ لكنّ المسائل المتراكمة العالقة في ذهني كانت تحاصرني من كلّ جانبٍ لتفرش أمورها المستعصية أمامي أمَلاً في حلّها أو تصفيّتها , كنت أتقلب يمنة ويسرة والسّهدُ يؤرّقني ، والكآبةُ تدهمني , أحسستُ بضيقٍ في نفسي ، وكأنّ جوَّ الغرفةِ قد تغيّر ، ورافقتهُ رائحةٌ جِدُّ غريبةٍ . ألقيتُ نظرةً على أولادي النّائمين كالأشلاء المتناثرة قد تكون الرّائحةُ خارجةً من أحدهم ولكن هذه الرائحة غريبة لا تقارن بروائحهم ، كانت الرائحة تقترب مني بازدياد ، بل أخذتْ تهاجمني ، فاضطررتُ إلى فتح النّوافذِ ، والبابِ على مصراعَيْهِ ، وتوجّهتُ حالاً إلى المطبخِ لأروي ظمئي وأخمد حرارة جسمي ، فمددت يدي إلى كأس الماء لأدلقها مرة واحدة . تنشّقتُ الرّائحةَ ذاتَها .. يا إلهي ..!. من أين تنبعثُ الرّائحةُ النّتنةُ هذه الشّبيهةُ برائحةِ الجيفةِ ..؟!..
اقتربت من اسطوانة الغاز لعلها هي التي تسرب الرائحة ، لكنّها كانت مغلقة بإحكام , أحس إن هذه الرائحة تملأ البيت و سرعان ما ملأتِ البيتَ كُلَّهُ ، فشعرتُ باختناقٍ . فلم يبق أمامي سوى غرفة الضيوف والتي تحتوي على مكتبتي و جهاز التلفاز . أشغلت الجهاز ودنوت إلى المكتبة لأتصفح بعض الكتب أو المجلات , انتابني شعور وكأن الكتب تهرب مني ، لم استنشق رائحة الكتب القديمة ولم اشعر بحنوها لي . الظّاهرُ أنّ الكتبَ قد استفقدتني علّها محتْ آثار أناملي …على أية حال لا ألومهم فالمصائب والمشاكل دهمتني دفعةً واحدةً ، وعلى حين غِرّةٍ ، فكادتْ أنْ تقضيَ عليَّ ، بل أنستني الكثير ممّا طالعتُ وفهمتُ . جلستُ لأتصفحَ كتاباً من كتب مكتبتي المتواضعة ولكنّ الرّائحة بقيت تلاحقني ألى هناك ، فكان جوّ الغرفة حارّاً وممتزجاً بالرّائحة تلك . انتفضتُ فخطوتُ خطوتين نحو المبرّدِ لأشغّله علّهُ يطردها ، بيد أنّ محاولتي باءت بالإخفاقِ ، وانتابتني برودةٌ.
اعتملتني الرّغبةُ في أنْ أستحمَّ ، وأتلو من القرآنِ بضعَ آياتٍ اتّقاءً للوساوس الّتي كانت تهزّني إلى أنْ تنفّس الصّبحُ ، عمت أرجاء الغرفة بتلك الرائحة , فاشتدّ غيظي ، و غلبني النُّعاسُ ، لكنّي استغفرتُ الله ، وتوجّهت إلى فراشي لأغطَّ في نومٍ عميقٍ.
سمعتُ زوجتي تتحدّث إلى جارتها عن الرّائحة مؤكّدةً لها أنّها– لاشكّ — رائحةُ الطّبخِ بالسّمنِ العربيّ ، ثم لفت انتباهي إلى قنوات التلفزيون حيث معظم البرامج السياسية وحتى الغنائية منها تقدّم أشعاراً وأغاني عن الرّائحة ، وفي إحدى القنوات حيث عقد لفيفٌ من المحلّلين السّياسيّين حول طاولة مستديرة ندوةً بهذا الخصوص قال أحدهم: إن هذه الرائحة من فعل أمريكا ، نعم أمريكا هي السبب الأول والأخير في مشاكلنا وتقف حجرة عثرة في طريق تقدمنا، لاشك إن هذه أيضا بدعة منها كسابقاتها كالجمرة الخبيثة مثلاً ، لترهب المجتمعات, تدخل آخر والحماس باد على وجهه قال : لنسم الأشياء بمسمياتها ياإخوان ماهذه التّرّهات..؟! ، ولماذا نحمّل غيرَنا أخطاءنا، ومسؤوليّةَ مايحدث في السّاحتين: الدّوليّة والإقليميّة ، ونجعل أمريكا وحدها مثيرةً للفتن ، ومضرمةً لنيران الحروب في منطقتنا ؟!. لِنَعْلَمْ جميعاً أنّ رياحَ التّغييرِ — لابدّ — آتيةٌ ، و لكنّي أرى الرّائحة من صنع الحكّام الجائرين لإلهاءِ النّاس ، وصرفهم عن مشكلاتهم وهمومهم المتفاقمة ، وعلى الفئة المستنيرة أنّ تتحلّى بالجرأةِ ، وتتصدّى لهذه الأفعال الشّائنة . وسرعان ما أقحم ذو اللّحية البيضاء نفسه على الموضوع قائلاً يا إخوان أنتم — مع الأسف الشّديد — تناقشون موضوعاً لاطاقة لنا بتحليله وتعليله ، ولاحول لنا ولاقوّة إلّا باللهِ ، وبتعبيرٍ أدقّ إنّها إرادة الخالق ، وهو القائل في الذّكر الحكيم : ( ..كُنْ فيكونُ ) ، ويبدو أنّ الرّائحةَ أمارةٌ من أماراتِ اقتراب السّاعة . ( ..إنّ السّاعة آتيةٌ لاريبَ فيها..) .
استيقظتُ باكراً لأتأكّدَ : تُرى ، هل تلاشتِ الرّائحةُ تلك..؟، الظّاهرُ أنْ لاجدوى منها ، بل بقيتْ كماهي ، وأشعرُ أحياناً بامتدادها وتزايدها ، انزويت في الغرفة وأنا اختلس النظر إلى الأولاد لأتأكد هل يشعرون مثلي بشيء ، إلا أنهم كانوا طبيعيين وكأنهم بلا أنوف ، أتصورهم بلا أنوف ، لا أدري ..!. أكوميديٌّ هذا المشهدُ أم تراجيديٌّ..؟!..بتُّ أشعرُ في داخلي بالسّخرية من الوجوه المسطّحةِ تلكَ ، وتذكّرتُ حركاتها ، وهي تستوقفنا في لوحات الفنّان الإسبانيّ / سلفادور دالي / السّرياليّة غير أنّ العادات والتّقاليد تمنعني من فعل ذلك إذْ كيف لابن آدم الخروج من غير أنفٍ ، وهو رمز شموخه وإبائهِ ؛ وفيهِ كلُّ قيمِ الشّرف والكرامة…؟!!. لا أدري ..!. لماذا أوردتُ الجملة مقرونةً بقيم الشّرف والكرامة ؟!.. إنّها — بحقّ — العملة النّادرة في زمننا هذا زمنِ الرّداءةِ والنّفاق ، والجشع وجمع المال . كان لزاماً عليَّ أنْ أبدو كأولادي طبيعيّاً دون ملاحظةِ أيّ شيءٍ…! . رائحةٌ أقلقتني ، وأزعجتني كثيراً إذْ أحسستُ بأنّ فئةً من النّاس تسخرُ منّي ، أو تتهرّب من لقائي ، وبعضهم يحيدُون — حين يبصرونني — من مسارهم واضعين أياديهم على آنافهم ؛ وأكاد أسمع — حين يمرّون بي — تهامسهم ، فقد غدت سيمفونيّةً اعتادتْ سَماعَها أُذُنَايَ :
المفلس رائحتهُ نتنةٌ حتّى لو اغتسلَ بمياه الغانج ., أشعرُ بأنّ هذه السَّحْنَة الإنسانيّة النّظيفة والطّهارة قدغدتْ ممتزجَةً بالقذارةِ. ولم أكنْ — ولله الحمد — مُفْلِسَاً ، فتوجّهتُ في الحال إلى بائع العطور ، واقتربتُ منه ، وحاولتُ — وأنا أتأمّل وجههَ — باحثاً عن شيءٍ ما في عينيه ، في ملامح وجهه ، في حديثه ، ولكنّه بدا عادياً جدّاً.
لم ينبسْ ببنتِ شفةٍ ..؟!!… لم يمط بشفته ؟!!. اشتريتُ زجاجةَ عطرٍ، ففتحتها ، وبها عطّرتُ نفسي ، وشرعتُ أتوجّه إلى محلّ عملي — وفي منتصف الطّريق — تفتّق ذهني عن استشارة أحد الأطبّاء لتشخيصِ وضعي الصّحّيّ .
– تبين علامات الدهشة على وجهه، وضع الطّبيبُ السّمّاعة على صدري بعد كشفهِ ، فأخذه الذّهولُ ، وأعاد العمل مرّاتٍ عدّةً ، ثمّ التفت إلى الممرّض الّذي بدتْ عليه أيضاً أمارةُ العجبِ هامساً في أذنه ؛ و هتفا معاً بعبارة :…غير معقوووووول.. مستحيييل !!!!.
– خارت قواي حين سماعي هتافهما ، وتلعثمتُ ، وقلتُ بنبرةٍ ملؤُها الحشرجةُ: أأنا — دكتور — بِ..بِ..بخيرٍ ؟!!..
– بخيرٍ ، وكنْ مطمئنّاً ، وأكثرِ الشُّكرَ والحمدَ للهِ أنّك حيٌّ ، وعلى قيدِ الحياةِ ..ولكن عليك بإجراء بعض الفحوصات والتّحاليل الطّبيّة ، ومن أجل ذلك أحوّلك إلى المستشفى . قد تكون لديك انسدادات شريانيّة تحتاج إلى عملية جراحيّة في القلبِ ..!.
– تقصد القثطرة ..؟
– ……..
– عمليّة في القلب ؟!.
– لابأس عليك ..إنّي لك ناصحٌ فانتصح ، اذهبْ إلى المستشفى دون تردّدٍ ، وفي الحال ..!
– خرجتْ كلمةُ من تلقاء نفسي على مضضٍ ، وبنبرةٍ عاليةٍ :
/ والرّائحة …/ ؟!!..