إبراهيم محمود
بوجه حزين وأسيف لا تخطئه العين، ولهجة لا تخفي شجنها العميق، قالت زوجتي، لحظة دخولي بيتي الدهوكي قادماً من دوامي الجامعي اليوم: الأحد ” 19-1/ 2025:
أسمعت، لقد رحل بافي طيار!
ربما لا أستطيع توصيف الحالة النفسية، بالكلام، لحظة سماعي برحيل بافي طيار، سوى أنني توقفت دون حراك، كما لو أنني أعلنتُ حدادي عليه في الحال، ملتزماً الصمت، وحدي، وخيالي المصدوم بالنبأ استغرق جغرافية كردستان كاملة، وهو مأخوذ بسماع مصاب كهذا، وماذا كان علي أن أقول أو أعمل أكثر من ذلك، إزاء نجم شعبي حلّق عالياً باسمه الحركي بافي طيار، وباسمه الفعلي” جمعة إبراهيم “، وبعمره المثمر بما هو كردستاني ” 64 عامة ” والفاصل بين ” 1961- 2025 “، وتكرار عبارة: لتدم خالداً بافي طيار.
سيتذكر كرده الذين عرفوه قبل أكثر من ربع قرن، إلى أي درجة كان ينير حياتهم، ويخفّف همومهم وأوجاعهم ومصاعب حياتهم اليومية ومفارقاتها، بتلك الطريقة البسيطة حيث لم يتلق تدريباً أكاديمياً أو مدرسياً، أو على يد خرْيج طرف مسرحي له تاريخه، دون رتوش ، وبكلمات بسيطة تسميّهم، كما تعرّف به: الفنان الكوميدي الشعبي، وتلك رتبة ليس في مقدور أي كان، أن يكون فنانها، وحاملها من هؤلاء الذين صُدموا برحيله المفاجئ، وغير المفاجئ معاً: المفاجئ، لأنهم أحبوه من القلب، ولطالما تابعوه في مواقفه ذات الطابع التمثيلي كما لو أنه يقوم بحركات ويتفوه بكلمات دون تحضير ، على السليقة إلى جانب من أحبوه وألفوا معه، وفي الواجهة ” ابنه ” الفالح في تمثيله العفوي” طيار ” ومن كانوا داعميه بكلماتهم وكاميراتهم وإمكاناتهم في محيط قامشلو وأبعد، ومن المحبوب هنا، يكون أي مصاب به صادماً لمحبيه، ورحيله لم يكن مفاجئاً، لأننا نتحدث عن كردي حاول ببساطته العميقة أن يسطر جوانب حية من تاريخ شعبه في آلامه وآماله، وبلغته البسيطة وذات الدلالة، وأظهر إلى أي مدى يمكن لأداء حياتي كهذا أن يكون تعبيراً عن طموح شعب وتاريخ شعب، فليس من المستغرب أن يودع الحياة ، دون أن يغادرها بروحه وأثره، على يد جلاديه وأعداء شعبه هنا وهناك .
رما كان بافي طيار أكثر من لفت أنظار أناسه البسطاء، إنما من يكونون مأهولين بالحياة، في أفراحها وأحزانها، في نطاق روج آفا كردستان إلى خارج محيطه الكردستاني، حيث كرده في الشتات، ليصبح منشطاً لذاكرتهم المكانية ومؤاسياً لها.
كان بافي طيار لافتاً في إظهار مفارقات الحياة الاجتماعية لكرده، وبلغتهم اليومية، بتلك التعابير التي نسمعها أنّى تحركنا، مع تطعيمها بعبارة تمنحها حيوية وجِدة وطرافة، وحركات متفاعلة معها، في المظهر والجوهر، جهة التنويع في الأداء الحركي والصوتي، إلى درجة أن الذين كانوا يتابعونه ، هم عموم الأعمار، رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، ولعل الراحل الكبير، كان نموذجاً ريادياً في ميدانه، وليس لي علم أن هناك من سبقه، أو استطاع منافسته في تلك المشاهد ذات الطابع التمثيلي، من كرده، ولكم بذلت محاولات دون جدوى .
لا أتحدث هنا عن أعماله وكيف جرى تحويلها من الكلام المسطور، إلى الكلام المؤدى مع الحركات، ذلك له مجال آخر، ففي وضع كهذا، يكون الدخول في التفاصيل، والذين ظهروا في الفيديوهات والمشاهد الموزعة في مواقع التواصل الاجتماعي، من أهله وبني جلدته، وهم كثر، كثرٌ بحق، كانوا في تفجعهم برحيله، ودون أي تكليف من أحد، دون أي توجيه مباشر ورسمي من أي جهة، كانوا، كما قلت، يمثلون التكريم الذي لا يقدَّر، والجائزة المعنوية التي سيذكرها التاريخ، وهي الطريقة الاستثنائية والنادرة بدورها، للتعريف المباشر، وبعيداً عن أي إملاء، لإبراز كيف يمكن لأحدهم أن يكون فناناً، فنان شعبه باقتدار.
أتراني أستطيع أن أعزّي من هنا أفراد عائلته، وأهله والمقربين منه حيث يكون الآن في عالم آخر، وحوله، من يشددون على أنه ينبض خلوداً في وجداناتهم، والعزاء عزاء كل كردي، عزاء كل من يكون الكردي الكردي في وجدانه الحي؟ !
بافي طيار، أعني أخي الكردي، نظيري في الوجع الكردي، وعلى طريقته، أعني: جمعة إبراهيم، عشت ماضياً في الطريق المثقل بالمواجع، ولكنه الطريق الأكثر كفاءة لجعل رصيدك الحياتي، وقد انتقلت إلى عالم آخر، ضامناً أبديتك، وهذا التاريخ تاريخ رحيلك وأنت في تراب أودعته الكثير من دمك الكردي النقي، إثباتاً لوطن يضم الجميع رغم كراهية من لا يريدونه هكذا، ولن نقول عن أنك رحلت إلى الأبد، إنه أبد يبقيك في حياة الذين عرفوك عن قرب، وأحبوك عن قرب، وأودعوك ذاكرتهم الكردية الجماعية ما بقي الدهر.
دهوك، الأحد، مساء 19-1/ 2025 .