من سجل محكوميتي

 إبراهيم محمود
في سجل محكوميتي وأنا على قيد الحياة، كما أنا الآن، أعني ” في قيد الحياة بدقة أكثر” سلسلة من الجرائم، أنا طريدها ليل نهار، منها:
محكومٌ بسفك دماء مائة قصيدة وقصيدة عن الصباح، لأن كل صباح فيها شهد ارتكاب أكثر من مذبحة حياتية بحق أطفال قيّض لهم أن يصبحوا نوابغ مجتمعاتهم
محكوم من أطفال لا أكثر منهم عدداً، لأنني استمرأت روعة طفولتهم، ولم أفصح عن أنهم تعرضوا لضرب معلّميهم كلَّ تحية علَم بزعم أنهم سيكونون أكثر طواعية في حب الوطن مستقبلا
محكوم من قبل القمر الذي اقتنص خيالي صورة له، في ليلة هادئة، دون أن أعلم أن قشعريرة برد رهيبة تملكته وقد نزف حرارته بالكامل على رؤية استباحات لحيوات الذين اغترفوا من ضوئه الحليبي
محكوم بالثناء على الضحك الآسر لرحيق ورود في حديقة بجوار بيتنا، دون أن أشير، ولو عرضياً، إلى الأيدي التي تقطفها وهي مضرجة بدماء أبرياء حتى النخاع
محكوم بطربي لرؤية نبع صاف، دون أن أشير إلى أنه دموع الأمهات اللواتي يبكين رجالهن في حرب مجنونة لسماسرة القتل
محكوم برسم عصافير سعيدة على أشجار بالغة الخضرة، وليس من إشارة إلى أنها أشجار مفخخة من جهة الذين يكرهون العصافير وهي تستحم بحمّام الفجر الساخن كل يوم
محكوم بشهادتي التي سميت فيها إعجابي بواد ظليل، دون أن أنوّه إلى أنه يتضمن أسفله جثثاً أعدِم أصحابها لأنهم غنّوا للحرية
محكوم بإشارة سريعة مني إلى جمال جرْف، ولم أشِر إلى أنه من على هذا الجرف، رمي مئات من الأزواج المطالبين بالحياة الزوجية السعيدة والمطالبة بالمساواة بين الجنسين
محكوم برؤية عينية مني، ركَّزت على تلة مرتفعة دالة على الشموخ، دون تسمية أنه من على قمتها دحرِجت رؤوس مقطوعة لأناس ذنبهم الوحيد أنهم رددوا معاً أغنية وحدة الشعوب
محكوم بإثارة غضب أنهار كثيرة وكونها صالحة للملاحة، وفي قيعانها ترقد جثث مفقودين ضحايا طغاة صفّوهم بنشوة غير مسبوقة
محكوم بخاطرة كتبتها في ظل شجرة وارفة، دون أن أتنبه إلى أن جذورها موصولة بجسديْ عاشقين ، تحابّا دون علْم ذويهما
محكوم بحمار مشهود له بظهر عريض، ولم أعط علماً بأنه كان جرّاء حمْله لأثقال تئن تحتها الجبال ممن يُعدَمون كل رحمة داخلهم
محكوم بجمال فتاة رسمته في لوحة، باختصار، ولم أشر إلى أن ابنة متنفذ أذاقتها الويلات لأنها أجمل منها، ودون أي محاسبة
محكوم بكتابة رواية تخلّد شهداء الوطن، دون أن أعلّق على أنهم كانوا قرابين من استأثر بالوطن وعباده كما يريد
محكوم بحب فتاة لم أستطع دفع قلبي بعيداً عنها، لأن ولي أمرها استفظع حباً كهذا من النظرة الأولى
محكوم من قبل بلبل أشدت بتغريده في قصة، متجاهلاً وجوده في قفص، وأن تغريده كان صدى آلامه
محكوم من قبل عقرب أظهرت سرعة فتك سمه بروح أحدهم، ولم أشر أن السبب من حمله ووضعه في فراشه نائماً
محكوم بمديح طريق معبّد وعريض مفرِح للمدينة، غافلاً عن أنه دشّن في خدمة أسلحة ثقيلة تدخل المدينة سريعاً وتسكتها كلما حاولت عصيان حاكمها
محكوم من حمامة أثارني هديلها، متجاهلاً أنها تطعَّم لتسمن وتقدَّم لطائر مالكها الجارح عند اللزوم
محكوم من كلب لأني ذكرت وفاءه، دون أن أنوّه إلى أنه مجبر على الوفاء، ليتقي شر صاحبه وهو في مرمى رصاصه
محكوم بسكيّن مثلومة، لأنني أظهرت عمرها المستهلك في التقطيع، ولم أشِر إلى أنها أشرِكت غصباً في تقطيع أجساد غضة كانت موعودة بحياة قادمة
محكوم بالرصاص لأنني ككاتب لم أفصح عن إقحامه في حصاد الأرواح ، وليس لاستخدامات علمية
محكوم بالطائرة التي تنافس سرعتها سرعة الضوء دون تسمية إلى أنها تحمَّل بما هو مميت، والإسراع لتفريغ حمولتها المروعة للفضاء نفسه
محكوم بالهواء نفسه، لأنني ألفت حوله كتاباً أعظّم شأنه، ولم أسلّط الضوء على الذين يخنقونه بكربونهم ليل نهار
محكوم بلغة أتيت على كرمها في رفْدي بالتعابير المطلوبة، دون أن أشير إلى أنها وجِدت لتذكّر فظائع جلادي شعوبهم، وهم يفرضونها على طلبة المدارس لحفظها عن ظهر قلب والركوع لهم كل صباح وقبل النوم
محكوم من قلبي نفسه، لأنني في كل أثر لي عن الحياة، تجاهلت زيادة خفقانه، ماضياً في تفخيم وهمي عنها إلى الآن
محكوم باسمي ذاته، لأنه يأتي قبيل كل كتابة لي، دون أن أبالي إلى أنه يساط بكلماتي التي ألزمُني بها

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

هند زيتوني| شاعرة سوريّة

هبًّ البحرُ،
ينثرُ ملحه كتعويذة تطهّر جراح المدينة،
يغسلُها من الحزن،
ويسقيها من نبع الحياة قطرة أمل.
خرج الموتى،
يتمايلون في حلبة الريح،
يلقون النشيد المقدّس
على حقولٍ أثقلها التعب.
خرج الرسّامُ من المجزرة،
بيدٍ مقطوعة
ولوحاتٍ معفّرة برصاصٍ آثم،
وأحمرٍ خجول.
من يُعيد للألوان زهوها؟
غزةُ،
أيّتها المدينة العالقة
بين فكّي (الميركافا)
وعويل الطائرات،
كيف تحيا الذاكرةُ
حين يُشفق علينا النسيان؟
هناك،
كان الزمنُ يجلدُ نفسه،
والأشرارُ يحملون
صخرة سيزيف
من القاع إلى القمّة،
لتسقطَ…

بدرية دورسن

وَلِيدَاتُ القَهْرِ وَالْخُبْزِ المُسَافِرِ بَيْنَ
خُطُوطِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ
بَيْنَ حُمْرَةِ الْخَجَلِ عَلَى وَجَنَتَيِ الْوَرْدِ
بَيْنَ الْخُضْرَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا عُنْوَانٌ
وَلِيدَاتُ الشَّوْقِ وَالتَّشَتُّتِ
الَّتِي لَيْسَ لَهَا عِناقٌ
وَالحَلُّ
وَالحَلُّ بَيْنَهُمَا دَرْبٌ مِنَ الوَهْمِ وَالسَّرَابِ
فَكُلُّ مَا يُقَالُ كَلِمَاتٌ
كَلِمَاتٌ لَا شَيْءَ سِوَى كَلِمَاتٍ
كَلِمَاتٌ تَسْبَحُ لِلْهُرُوبِ مِنْ أَنْغَامِ الْأَحْزَانِ
كُلُّ شَيْءٍ تَشَابَهَتْ كُلُّ شَيْءٍ
فِي ذُرْوَةِ الْحَيَاةِ فِي قِمَّةِ الْمَوْتِ
وَلِيدَاتُ التَّمَزُّقِ فِي الْهَوَى
التَّنَهُّدَاتِ فِي التَّأَمُّلِ
وَكَأَنَّنَا خُلِقْنَا…

تقرير: فراس حج محمد| فلسطين

صدر مؤخرا عن دار السراج للنشر والتوزيع في مدينة طرابلس الليبية، كتاب “جسور- أسئلة عن الأدب الليبي”، وهو الكتاب الثاني للصحفي والكاتب الليبي عبد السلام الفقهي، وصمم غلافه الفنان التشكيلي محمد الخروبي، ويقع في (230) صفحة من القطع المتوسط.
وتمثل مادة الكتاب كما جاء على الغلاف الأخير “تذكرة صعود إلى فضاءات تجمع…

ابراهيم البليهي

من حرارة التساؤل ومن عمق الاستشكال ومن استصحاب الشك ومن ديمومة الرغبة العارمة في الادراك والمعرفة والفهم نبع التفكير الفلسفي الخلاق لذلك فإن التفكير الفلسفي يستحيل أن يُعَلَّم فحين يجري تعليم الفلسفة فيجب أن لا نتوقع تخريج فلاسفة ……
الفلسفة حتى في منشئها في اليونان لم تتحول إلى ثقافة عامة للمجتمع وإنما كانت نشاطًا فكريا فرديا…