في وداع ديا جوان… الشاعرة

فواز عبدي

 

كان بيني وبين ديا جوان عهد صامت، تفاهم غير مكتوب، اتفاق لم نبرمه بالكلمات، لكنه ظل قائماً بيننا حتى النهاية. كنتُ أكره السياسة، أو بالأحرى، كرهتُ “السياسة” الكردية في بنختى. كان صوتي يرتفع لاإرادياً حين تُذكر، ينقبض صدري، ويتملكني ذلك الشعور الثقيل الذي لم أستطع تفسيره تماماً، لكنه كان يكفي ليجعلني أنفر من الخوض فيها.

هي، بدورها، فهمت ذلك دون أن أحتاج إلى تكراره. لم تكن تناقش، لم تجادل، لم تحاول أن تغيّر رأيي أو تجرّني إلى ساحة النقاش. فقط، كانت تبتسم وتمضي في الحديث عن تفاصيل الحياة، عن القصائد، عن الورود التي لا تندم على أعمارها القصيرة إذا مُنحت لعاشق أو طالب حرية.

لكنها كانت تعرف متى تخترق هذا الجدار بصوتها الهادئ، متى تستثني قاعدة الصمت التي التزمت بها احتراماً لرغبتي. كانت تفعل ذلك حين يكون لديها خبر سياسي سار، وحينها، قبل أن تتفوه بكلمة واحدة، كانت تسبقها بضحكة.

ضحكةٌ خفيفة، قصيرة، لكنها لم تكن مجرد صوت، بل كانت إشارة، مفتاحاً، رسالةً خفية تقول: “لا تقلق، هذه المرة الأمر يستحق الاستماع.” كنتُ أبتسم دون أن أشعر، وأدعها تتحدث. وحين تنتهي، كنتُ أفكر، ربما للحظات، أن السياسة ليست بهذا السوء، على الأقل حين تأتي منها، محمّلة ببعض الأمل الذي لم أعد أجده في مكان آخر.

اليوم، رحلت ديا جوان، ولم تعد هناك ضحكة تسبق الأخبار. رحلت، لكن قصائدها بقيت، تلك القصائد التي كانت تترعرع على خبز الكرد، وتغفو على نوافذهم، وتنهض كلما مالت الحياة نحو السقوط.

أفكر الآن، وأنا أستعيد ملامحها، صوتها، كلماتها، أنني لم أشكرها يوماً على احترامها لصمتي، على انتظارها للحظات التي يكون فيها للكلام طعم الفرح. ولا أظنها كانت تنتظر شكري، وتلك من شيم الكرام.

الآن، وبعد أن رحلت، لم يبقَ سوى القصائد… والضحكة التي صارت ذكرى.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم اليوسف

تقف الأديبة الشاعرة الكردية مزكين حسكو في فضاء الشعر الكردي الحديث، شاهدة على قوة الكلمة في مواجهة تشتت الجغرافيا. جبل شامخ كآرارات وجودي لم تنل منه رياح التغيير القسرية.

شاعرة كرّست قلمها لرسم جماليات الهوية الكردية من منفى اختاره القدر، فنسجت قصائدها بلغة أمّها كوطن بديل يحمل عبق تلال كردستان ووجعها. كما تقول في إحدى…

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن

كان في صدري شرفة تطل على سماوات بعيدة،
أعلق عليها أمنياتي كفوانيس صغيرة،
حتى وإن كانت الحياة ضيقة، كنت أزيّنها بخيوط من الأمل،
أجمع فتات الفرح، وأصنع منه أحلامًا تكفيني لأبتسم.
كنت أعيش على فكرة التغيير، أتنفسها كل صباح،
وأخطط، وأتخيل، وأصدق أن الغد قد يجيء أجمل.

أما الآن…
فالنوافذ مغلقة، والستائر مثقلة بغبار الخيبات،
وألواني باهتة، وفرشاتي صارت ثقيلة بين…

عِصْمَتْ شَاهِينْ اَلدُّوسَكِي

وَدَعَتُ فِي نَفْسِي ضِيقَ الْحَيَاة

وَأَلَمَّ الْأحْزْانِ والْجِرَاحَات

أَذْرُفُ الدُّمُوعَ بِصَمْتٍ

كَأَنِّي أَعْرِفُ وَجَعَ الْعَبَرَات

أُصِيغُ مِنْ الْغُرْبَةِ وَحْدَتِي

بَيْنَ الْجُدْرَانِ أَرْسُمُ الْغُرْبَات

 

**********

يَا حِرمَاني الْمُكَوَّرِ فِي ظَلَامي

يَا حُلُمي التَّائِهِ فِي الْحَيَاة

كَمْ أشْتَاقُ إلَيْكَ وَالشَّوْقُ يُعَذِّبُنِي

آَهٍ مِنْ شَوْقٍ فِيه عَذَابَات

لَا تَلَّومْ عَاشِقَاً أَمْضَى بَيْن سَرَابٍ

وَتَرَكَ وَرَاءَهُ أَجْمَلَ الذِّكْرَيَات

**********

أَنَا الْمَلِكُ بِلَا تَاجٍ

أَنَا الرَّاهِبُ بِلَا بَلَاطٍ

أَنَا الْأَرْضُ بِلَا سَمَوَات

وَجَعِي مَدُّ الْبَحْرِ…

ميران أحمد

أصدرت دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع مؤخراً المجموعة الشعرية الأولى، للشاعر الإيزيدي سرمد سليم، التي حملت عنوان: «ملاحظات من الصفحة 28»، وجاءت في 88 صفحة من القطع المتوسط.

تأتي هذه المجموعة بوصفها التجربة الأولى للشاعر، لتفتح باباً على صوت جديد من شنكال، يكتب من هوامش الألم والذاكرة الممزقة، بلغة جريئة تشبه اعترافاً مفتوحاً على الحياة…