رواية «الأوسلاندر»: صِدام الثقافات في غربة اللاجئين

الكاتب والناقد العراقي مروان الدليمي 

في روايته»الأوسلاندر» وبعنوانها الفرعي «تشريع الغربة اختبار الفقد» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2024، اقترب الروائي السوري خالد إبراهيم من ملامسة حياة اللاجئين السوريين في بلاد الشتات الأوروبية، عبر نص سردي مشحون بشيفرات ودلالات تحيلنا عملية تأويلها إلى مرجعياتها الواقعية. وما يحسب له أنه تعرض لقضية اغتراب الإنسان الكردي السوري في وطنه، قبل أن يعاني من جحيم الاغتراب الأوروبي، بذلك تبدو مغامرته السردية، خطوة جريئة لتفكيك موضوعات تم تجاهلها، ورغم حساسيتها أمست من القضايا المعقدة والمسكوت عنها، ويمكن القول إن عملية تناولها في هذه الرواية توفرت على قدر كبير من النضج في رؤيتها والتفاعل معها بتركيبة فنية، اتسمت بقراءة تقنية سَلِسة فكَّكت ظلال تشابكاتها الثقيلة على جميع شخوص الرواية، بالتالي نجح إبراهيم في إعادة صياغتها جماليا، وليضع القارئ أمام تجربة إبداعية تعاملت مع الواقع من زاوية الفن، وهو يتحرك في منطقة التخييل، لأنه لم يكن يقصد إقرار الواقع، إنما إثارة وعي القارئ وانفعالاته أثناء وبعد تلقي العمل. بمعنى أن المؤلف لم يكتف في استراتيجية بناء نصه، على قواعد فنية موصوفة وسائدة، ولم يتورط في عملية نقل واقع خارجي ومحاولة عكسه على الورق، بل جاءت بنيته السردية توغلا في الداخل وليس تعلُّقا بالظاهر، ومحاولة لاقتحام مغاور ما تحت الوعي لتعرية الذات والعالم.

 

زوايا الرؤية

 

هيمن المنظور السردي عبر الرؤية الذاتية للشخصية الرئيسية، ولم يكتف المؤلف بذلك، بل عمد إلى توسيع زوايا الرؤية، للوصول إلى المناطق الغامضة من قضية اللاجئين، فنجح في أن يؤسس حبكة سردية أتاحت لبقية الشخصيات – إلى جانب شفان الشخصية الساردة الرئيسية – أن تتمركز هي أيضا في بؤرة السرد وتستلم من شخصية شفان السارد الرئيس والوحيد، مسؤولية السَّرد لتبوح بتفاصيل تغريبة اللاجئين، فكان هذا الخيار من الناحية الفنية، محاولة تقنية فتحت أفق النص على مساحة واسعة من زوايا النظر، بدل خيار التمركز والدوران في مساحة مرتبطة بالشخصية المحورية فقط. والمؤلف هنا، انحاز باتجاه تخصيب العلاقة ما بين نصه والمتلقي، قاصدا بذلك أن يجعل هذه العلاقة متحركة ومتغيرة بشكل متشظٍ، وليس ثابتة في مكان واحد وزاوية واحدة، فالرواية بهذه التقنية امتلكت شيفرتها الخاصة التي لملمت بها حكايات متناثرة للاجئين من الواقع العيني، وما لحق بحياتهم من حطام طال تقاليدهم وعاداتهم وأخلاقياتهم وكرامتهم وشرفهم. وإذا كان الروائي السوداني الطيب صالح في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» التي صدرت عام 1966 قد نجح في تناول إشكالية العلاقة التي يسقط فيها الرجل الشرقي وهو يخوض تجربة العيش في مجتمع غربي، فإن خالد إبراهيم، أكمل ما بدأه صالح، وذهب أبعد مما وصل إليه، عندما رصد التصدعات التي تتركها هذه العلاقة الاشكالية على الانسان الشرقي. وكم بدا العالم الغربي في خطاب الرواية متوحشا وقاسيا في رؤيته للعلاقة بين المرأة والرجل، فيما يتستر الغرب بقوانين صارمة لضبط هذه العلاقة، لكنها في المحصلة النهائية تفضي إلى تدمير الحياة الزوجية لصالح المرأة وعلى حساب الرجل، الذي يتحول إلى مخلوق عاجز ومشلول، لا يستطيع الدفاع عن كرامته حتى عندما تخونه زوجته، وهذا ما كابدته معظم شخصيات الرواية من الرجال، لتنتهي حياتهم عند نقطة الصفر، مِن بعد أن استولت نسائهن على كل شيء، البيت والأولاد ورواتب الرعاية المخصصة للأطفال.

 

شيفرات السرد

 

بدت الرواية معبأة بشيفرات تحفز المتلقي إلى أن يبقى يقظا، ومتشوقا لاكتشاف ما تضمره من دلالات موزعة بين الشخصيات والأحداث والكلمات، وجاءت جميعها مشحونة بالمعاني والأفكار. فكانت محاولة جادة لاحتواء عوالم اللاجئين السوريين، بكل ما فيها من عذابات وأحلام وانكسارات وشروخ. ولا شك في أن تجربة الغربة من أصعب التجارب الإنسانية التي قد يمر بها الإنسان، لاسيما في حالة اللاجئين الذين يضطرون لمغادرة أوطانهم هربا من الحرب أو الاضطهاد. فهي بالنسبة لهم – مثلما هي شخصية شفان – ليست مجرد شعور بالبعد عن الوطن، بل رحلة عذاب نفسي وجسدي، مليئة بتحديات تجعل من قضية الاندماج في المجتمعات الجديدة أمرا شاقا تخلق لهم جراحا عميقة، تظل تؤثر فيهم طوال حياتهم. وأول ما واجهه شفان في ألمانيا القادم من مدينة الحسكة السورية، فقدانه الشعور بالأمان والاستقرار حتى وصل به الحال إلى أنه لم يعد يشعر بوجوده في الحياة: «مؤخرا كنتُ أحدهم، أنا الآن لا أحد».. بهذه الجملة يفتتح المؤلف روايته. فالوطن الذي هرب منه، بسبب قسوة النظام الأسدي مع المتظاهرين السلميين في بداية الثورة السورية منتصف مارس/آذار 2011 بات مرعى لذئاب السلطة، ولم يعد مكانا يتوفر فيه الأمان.

 

عزلة الهويات

 

بقدر ما شكلت ظروف الثورة السورية وما رافقها من عنف وقسوة من قبل أجهزة السلطة الأمنية والعسكرية خلفية للأحداث والمصائر التي انتهت إليها الشخصيات السورية اللاجئة في ألمانيا، بقدر ما أنها ترصد وبلغة سردية شفافة لامست الشعر في استعاراتها ومجازاتها، تلك الفجوة العاطفية التي أخذت تتفاقم بين أوساط اللاجئين القادمين من الشرق، فيما هم يواجهون صعوبة في الاندماج مع محيطهم الجديد. فتنفجر في طريقهم تحديات اجتماعية معقدة، تفضي إلى تمزّق الروابط الاجتماعية، وتشظي أفراد الأسرة الواحدة، ليذهب كل واحد منهم في طريق. فالثقافات المختلفة بين الشرق والغرب، واللغات الغريبة، والعادات المتباينة، تجعل من الصعب عليهم الحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية، ما يكرس شعورهم بالعزلة.

 

شعرية السرد

 

إن شعرية اللغة في السرد لا تعني تحويله إلى نص شعري، بل هي تتجسد في قدرة المؤلف على تحويل اللغة إلى تجربة جمالية حسية وعاطفية، تسهم في توسيع أفق القارئ وتعميق تجربته مع النص. فتخلق اللغة وأسلوب صياغة الجمل وتراكيبها جسرا للتواصل ما بين الواقع والخيال، بين الحدث الواقعي والتخييل السردي، بين الكلمات والمشاعر. هذا ما تكشفه لغة المؤلف في هذه الرواية بشكل طاغ ومؤثر، ومن خلالها تمكَّن من أن يكشف دواخل الشخصيات وصراعاتها مع ذاتها عبر لغة مشبعة بالإيحاءات والتأويلات، ما جعل السرد ينحت حضوره بشكل أكثر عمقا وجمالا ، بالشكل الذي يدفع القارئ إلى التفاعل مع النص بمستويات أعمق.

 

الذات الهشّة

 

الرواية ترصد مسار شخصيات عديدة لاجئة تلتقي في الكامب، أغلبهم سوريون فارون من الحرب والقمع السلطوي منهم، تيسير ويوسف وبهزاد وآخرون، وهناك أيضا لاجئون أفراد من أفغانستان ورومانيا وبولونيا، وما يجمع هذه الشخصيات، تلك الذات الهشّة التي سقطت في هوة من الظلم والقهر قبل هروبها من الوطن الأم. وليس شفان وحده من تطارده الذكريات بكل مرارتها، وليس وحده من دمَّر بيته وهاجر، إنما كل الشخصيات تطاردها الذكريات، وتتعرض لانتكاسات عائلية في بلد اللجوء، بالتالي تقذف بهم إلى أرصفة التشرد والإحساس بالضياع. الكل هنا يعاني من صراعات داخلية، فبالإضافة إلى الحزن على فراق الوطن والأماكن المألوفة والأحبة، فإنهم يواجهون مشاكل نفسية، مثل الاكتئاب والقلق والذكريات المؤلمة بسبب ظروف الهجرة، إلى جانب فقدان الأمل، وما يواجهونه من صعوبة في إيجاد معنى جديد لحياتهم في المجتمعات الجديدة، لكن شفان يختلف عنهم في أنه شاب مثقف لديه شغف بالأدب والكتابة الأدبية، وعانى كثيرا عند وصوله إلى ألمانيا: «تذكَّرتُ كيف نمت هنا ذات يوم وقد أنهكني برد شتاء الغربة، بل نمت في هذه المحطة أكثر من مرة، جائعا، خائر القوى، بلا ماء، بلا سجائر، بلا نقود، بلا شرف، بلا كرامة، وبلا وجه أمسح به نظرات العابرين بين قطار وآخر». ووسط هذه العذابات لم يكن يشغله سوى أن يحافظ على حقيبته التي تضم أقلامه وأوراقه: «كنت محافظا على حقيبتي أكثر من كرامتي، وما نفعُ حياتي دون بعض الأقلام، وكمبيوتر صغير يحوي كل أخطائي وكنائس بربريتي المثقلة بالسخط» .

تبدو شخصية شفان تجسيدا لمحنة المثقف الشرقي في بلدان اللجوء، فهي محنة معقدة في تركيبتها تتعلق أولا بفقدانه لوطنه، والمواجهة مع ثقافات جديدة، وما يتبع ذلك من تحديات نفسية واجتماعية. فقد ترك خلفه عائلة تعيش تحت ظروف قاسية، كما أنه غير قادر على العودة إلى وطنه، وعاجز عن الاندماج في المجتمع الجديد.

 

قهر الرجال

 

توغلت الرواية عميقا في إشكالية اللجوء، راصدة الجحيم الذي يعيشه اللاجئون الشرقيون، خاصة الرجال، فالقوانين الغربية تبدو مُصاغة لكي تمنح المرأة كل الفرص لكي تتحرر من القيود التي تشترطها الحياة الزوجية، وليكون الرجل في موقع الكائن المقهور الذي لا يملك أي فرصة للدفاع عن كرامته المطعونة كزوج مخدوع. هذا الحال يبدو القاسم المشترك بين جميع الشخصيات الرجالية، فأغلبهم فشل في الحفاظ على تماسك أسرته، بعد أن وجد نفسه عاجزا عن كبح جماح زوجته في ممارسة حريتها الجنسية، وإقامة علاقات حميمة مع رجال آخرين. وكأنَّ النساء الشرقيات ما إن يصلن بلدان اللجوء حتى يجدن الفرصة أمست مؤاتية لينتقمن من الأوضاع الصعبة، التي كنَّ يعشنها في أوطانهم مع أزواجهم، وذلك بالتمرد عليهم وخيانتهم والانفصال عنهم.

من هنا ترسم الرواية صورة مركبة للحياة المتصدعة التي يعيشها اللاجئون، ومع ذلك فهم يحاولون عبر صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي أن يظهروا بملامح مزيفة أمام معارفهم وأصدقائهم في الوطن الأم، بينما حياتهم في الواقع ليس فيها نبرة سعادة حقيقية يمكن الوثوق بها: «في صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي يتظاهر الزوج بأنه يعشق زوجته حد الهيام، وتتظاهر بعض الزوجات بأن أزواجهن كل ما يملكن في فضاءات ألمانيا وأوروبا» .

 

البحث عن الهوية الضائعة

 

وبقدر ما الرواية تتحدث عن الثورة والحب والخيانة والتشرد، بقدر ما تتصدى لمسألة الهوية التي تتعرض للتصدع داخل وخارج الوطن، فشخصية شفان تلقت عددا من الصفعات منذ مرحلة الطفولة، مرورا بفترة الشباب، فقط لأنه كردي، لتترك في داخله جروحا عميقة لم تندمل: «تطاردني الذكريات المريرة مذ كنت طفلا، بل إنني ممتلئ، متخم، ويمكن تلخيص حياتي ببعض الصفعات، فمن أول صفعة على خدي عندما همست لزميلي في المرحلة الابتدائية باللغة الكردية أن يعيد لي قلمي لأكتب الوظيفة، صفعني الأستاذ وقتها، ووبخني قائلا: ممنوع التحدث بغير اللغة العربية، إلى صفعة أخرى تلقيتها من زميل آخر في المرحلة الأعدادية عندما فزت عليه في مسابقة للجري، فقال لي وهو يضحك ساخرا، كردي ذيل الجرذي». ولمَّا حطت به الأقدار في ألمانيا، اتسعت الجراح في تجربة الغربة، لتتحول بالتالي إلى ألمٍ جسدي شديد تضاعف حتى أنهى حياته.

تبقى ملاحظة أخيرة حول كلمة»الأوسلاندر»التي تعني باللغة الألمانية «الأجانب» وتشمل كل المقيمين في المانيا من غير الألمان، ولا أدري لماذا استعملها المؤلف بدل كلمة «أزولنتن» التي تعني «اللاجئين» طالما أن الرواية تتحدث عن اللاجئين.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد ابراهيم

 

يبتلعُ الخطى التائهة، ويحفرُ بأنيابهِ في عظامِ الغريبِ أسماءَ المنفى، كأنَّهُ لا يعرفُ سوى اقتياتِ الدموعِ والخراب، يكدّسُ الأوجاعَ فوقَ الأوجاع، ويجعلُ من الجماجمِ سلّماً لعرشِ الوهم. هنا، تتلاشى الأحلامُ كفقاعاتِ السراب، تجفُّ الأزمنةُ على شفاهِ الأمل، وتموتُ الحكاياتُ قبل أن تولد، كأنَّ الريحَ لا تحفظُ سوى صدى البكاء، كأنَّ الدروبَ حفرتْ قبورها مسبقاً،…

نزار يوسف

 

لقد تعلم الفنان أن لا يضعف تجاه المواقف والصعوبات في الحياة ، وأصبح على استعداد دائم ليتعلم الدروس ويصقل شخصيته الفنية حتى النهاية ليبني الحياة من خلالها .

فاضت الأغنية من حنجرته الذهبية المتمكنة، تحولت همساته إلى موسيقى، سالت أحاسيسه مع نبرات صوته كسلاسل لامعة من الذهب، فسقت مراحل مهمة من تاريخنا وتاريخ فننا وموسيقانا….

إبراهيم محمود

 

عندما تهجأتُ ممتلئاً بك ” أحبك ِ ”

فقدتُ رأسي في الحال

وتراءى لي جبلٌ جبلٌ جبل

جبل من صوان ودم وضوء وعسل وهواء فتي

له قمة ينتسب إليه شموخٌ فريدُ إقليمه

رأيتني مرفوعاً به إلى أعلى عليين

وأكسبتني نجوم من حنان وشجر يانع دون جذور

ملَكَة الامتلاء باللامرئي

حيث تكونين أنت بكل بهاء نسبك الكوكبي

 

عندما تهجأت مسكوناً بك ” أحبك ”

فقدتُ…

إبراهيم محمود

 

بياضٌ تقطَّر منك ِ

اشتعل ليلُ رغبة تليد

توسلت إلى الصباح طويلاً

أن تتأخر الشمس في ظهورها

وأنا أتدثر بذلك المتقطر من بياضك

وأنا أتنفس تلك العينة التي

ألهمتني لعمر يأتمر به زمن قادم

أي متصوف أنا في تكية وجدك الأعظم؟

 

كيف لبياضك

أن يقلق سواداً هو جذره التكعيبي

أن يفتتن الأصل بالفرع

أن تغيّر الغابة المتشحة بالسواد وجهتها إليك

كيف لظلال تبتهل إلى فيزيائها بجرعة…