سامي عمامي*
تصدير: “بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان” محمود درويش
منذ وقت غير بعيد قدمت لنا الرسامة التونسية صابرة بن فرج معرضها الشخصي الأول “سلالم للطيران” بقاعة” ارشيفارت” بأسلوبها الخاص، المشبع بواقعتيه السحرية المتشابكة حيث يتجاور الواقعي مع نقيضه) الخيالي (في صورة بصرية تشكيلية واحدة متجانسة ومتكاملة، وثقت من خلالها حنينها الجارف لاستعادة تفاصيل طفولتها وسردها بطريقة مشرقة، بسيطة وعميقة في آن واحد، فن ملفت للنظر يدفعك بطريقة ما الى تذوقه دفعة واحدة، تشعر معه برغبتك في الوصول اليه ولمسه.
إنها رحلة تشكيلية جسدت من خلالها بن فرج ارتباطها الوثيق بماضيها، المليء بالدفء والبراءة والمرح، أسلوب انطباعي جريء أتاحت لنا بواسطته اكتشاف علاقتها مع العالم، ذلك العالم الحر المطمئن حيث الخيال الجامح الخالي من قوانيننا الجاهزة.
سلالم للطيران
قبل البدء في تتبع مواطن الجمال و سبرها في منجزات الفنانة صابرة بن فرج وجب التوقف على دلالات عنوان المعرض وما يحمله من شاعرية دافئة، جمالية اسمية اختزلت رغبة صاحبته في خلق اتصال عاطفي مع المتلقي منذ الوهلة الأولى واعدة إياه برحلة “طيران” داخل الزمن، وكأن بحال لسانها يقول لنا “تعالوا معي نكتشف العالم من جديد ونتذكر أوقاتنا السعيدة” التي كان بإمكاننا فيها اللعب بكل سعادة طوال اليوم، فلا قيود تمنعنا من تحويل الاممكن الى ممكن ومن إلباس اللامعقول لونا و شكلا و حضورا، لتضعنا أمام حيرة الفصل بين الحقيقي والمجازي.
دع الحلم يعيش
متكئة على خبراتها التقنية البصرية والمعرفية، شيدت الرسامة صابرة بن فرج عوالمها الفنية الحالمة بدقة متناهية بفضل ذاكرتها البصرية وقدرتها العجيبة على ادماج عنصر الفانتازيا في تركيبة منجزاتها، لتثير فينا الدهشة والشغف لِتتبعِ رحلتها التشكيلية داخل الزمن وخارجه، محررة الصورة من معالمها الثابتة، فنغوص معها في أعماق الذاكرة مع تفاصيل طفولتها اليومية، لغة بصرية تعبيرية مراوغة تنقلنا من مكان الى آخر ومن زمن إلى زمن فلا شيء ثابت كل يسبح في مجرة متحركة.
بها توق وقاد للإحاطة بعالمها وكأنها تنظر إليه من خلال عدسة مكبرة لترى جزيئات ذاكرتها فترسمها بِوَلهِ عاشق، فهذه بنت تجر عربتها الصغيرة، تتوقف للنَظرِ الى زوج حمام يقفان على حافة شباك بيتها، في مشهديه يمكن وصفها بالشاعرية اللطيفة التي تمنحنا ابتسامة خفيفة عند رؤيتها.
على الجدار نفسه خطت صابرة بن فرج “خربشات” لأسهم باتجاهات مختلفة تشعرنا بالحركة والدوران فتتبعهما العين وتتجول معهما الى نقطة النهاية، مما يخلق حيوية وديناميكية داخل تركيبة المنجز، خربشات على الجدران تشكل عليها أحلامها التي لا تنتهي فتضج اللوحة باللون والعلامات والرموز لتذكرنا بشغفنا باللعب والاكتشاف والتجريب.
عالم بسيط وحر تضُمِن فيه الرسامة أنشطتها اليومية فنستمتع بالنظر إلى تلك الفتاة الصغيرة وهي على أرجوحتها المطاطية غير آبهة بشيء، إنها حمامة تحلق في سماء رحبة، تريد إخبارنا أنها مازلت تحتفظ بطفولتها وتبقيها على قيد الحياة بداخلها، فكأن بها تخادع الزمن لتعود به إلى الوراء هاربة من حاضرها والضغط اليومي لتأخذ استراحة مؤقته فتسمح لطفلها الداخلي بالتألق والظهور، إنها تتبنى فكرة “أن الفن العظيم يولد من مخاوف عظيمة ومن وحدة عظيمة من كبت وعدم استقرار.”
إلا أن صابرة بن فرج في معرضها هذا لا تكتفي بنقل ذكريات طفولتها فحسب بل أنها تختبر خيالها عن طريق خلق مزاوجة ذكية وطريفة بين الواقع والفانتازيا لسرد كل هذه التفاصيل الشاعرية، فيتحول معها الخيال إلى واقع ملموس بصريا يصعب الفصل بينه و بين الواقعي، وهو ما كشف عن قدرتها الهائلة على التقاط جمال تفاصيل الماضي، إنها أكثر من مجرد متعة بصرية بل هي رحلة تحمل في طياتها موضوعات عميقة مثل تقدير كل لحظات الحياة العابرة، التي تذكرنا بالسحر الموجود في كل لحظة صغيرة وجميلة تم التغافل او التغاضي عنها رغم ما تحمله من جمال و أهمية.
جاءت صورها مليئة بأجواء خيالية تشبه الحلم وكأنها أرادت أن تقدم لنا رؤيتها للعالم من خلال عيون طفلة صغيرة فتداخلت العلامات، الصور والرموز على مساحات لوحاتها مُشكلة عوالم غرائبية وسحرية، أسماك، طائرات ملونة وسماوات ناعمة تتوزع هنا وهناك بصفة تلقائية يسافرون ن بنا عبر الزمن الى ماضي بعيد إنها مرايا تتراءى فيها أشياءنا الحميمية فتلامس برهافة أغوار الروح وانفعالاتها لتخلق عالما من البهجة والسكينة والفرح تساعدنا في نهاية الأمر على فهم ذواتنا والإحساس بها فأنت أمام منجزات تحس بأنها جزء منك.
كائنات صابرة تلهو وتمرح بلا ضوابط، تخلق لنفسها ايقاعا حركيا خاصا تذوب فيه الفواصل بين الواقع والخيال بين الحاضر والماضي فتسبح الاشكال برشاقة وسلاسة في فضاءاتها راسمة حركات متنوعة ومتعددة بأسلوب فانتازي ساحر.
اللون المليء بالأسرار
ليس الحركة وحدها من تصنع هذا البعد الخيالي الغرائبي فحسب بل يتكاثف معها اللون لمزيد تعميق هذا الإحساس حيث سيطرت الألوان الشفافة الناصعة المليئة بالطاقة والحيوية، ألوان زاهية تتقلب بين الأصفر الشفاف والأزرق الحالم بمختلف تدرجاتهما ساهما بدورهما بظهور مفهوم جديد” الخفة ” الذي أضفى للشكل ميزة التحرك والتحرر وكسر رتابة الأشكال الجامدة، مسارات لونية تطل على عوالم الأحلام والحلم لتأخذنا الى أقصى المعنى.
يعد اللون أحد الرهانات الفنية البصرية في فن “بن فرج” فهو وسيطها التقني في التعبير عن أفكارها والعنصر الأهم الذي استطاعت من خلاله تحويل فضاء اللوحة إلى تجربة حسية متكاملة تجمع بين الواقعية الحميمية والفانتازيا مما أسهم في إنشاء علاقة تفاعلية بين المتلقي وماضيه.
هذا التشابك الثنائي) الواقع، الفانتازيا (بين مفردات من حياتها اليومية والأشكال الخيالية المبتكرة ساهم في إعطاء المنجزات احتمالات بصرية عديدة مغايرة لما تعودت العين على رؤيته إذ تعكس تفتحا معرفيا ووعيا جماليا بصريا بمكونات تركيبة لوحاتها فهذه المنجزات ليست مجرد خزان للماضي السعيد فقط بقدر ماهي صور حية مليئة بالأسرار.
* كاتب وفنان تشكيلي تونسي