غريب ملا زلال
العمل الفني ذكي جداً ، بل و أذكى من صاحبه الذي ما إن ينتهي منه حتى يركن نفسه إلى تأملات تستوطن دواخله ، و بصمت منتشياً بتلك التأملات الجوانية المرافقة لعوالمه الداخلية التي لا تنفك لتجره إلى الإيغال في متاهات الخلق و الإبداع ، أما هو و أقصد العمل الفني فيبدأ بالضجيج و الحياة جاراً أي عابر سبيل من أمامه ليرغمه على التأمل و البحث عن إجابات لتساؤلات لا تحصى و لا تعد ، و لا ينفك يتلقى منهم جميعاً الإضافات و التعديلات و التحويرات التي تؤيدها ، و التي تستوعبها على نحو مرن ، قادر ان يمتصها بمختلف رؤياها ، و رؤاها ،و أفكارها و أشكالها ، فالإنتاج هنا لا يقيد بقالب حكائي معين ، بل هو منفتح و متفاعل مع الآخرين و ثقافاتهم ، نعم العمل الفني ذكي جداً ، سواءاً أكان ذلك في إشاراته و دلالاته ، أو في سجالاته الكثيرة التي تتم فيما بين ذاته ، أو فيما بينه و بين الآخرين ، أو فيما تخلقه من تلك السجالات حوله بين الآخرين ، أسوق هذا الكلام و أنا أبحر بين أعمال الفنان التشكيلي معن علي سعيد ، إبن مدينة السلمية ، المدينة التي أعتبرها على نحو دائم توأمة مدينة عامودا ، فكل منهما تنبض على امتداد الزمن بالحركة الثقافية الكبيرة ، و بالكم الكبير من المبدعين في المجالات المختلفة ، في الشعر و المسرح و التشكيل و الموسيقا … إلخ ، و من خلال إبحاري هذا خرجت بكنوز لم أكن أتوقعها بداية ، فأنا أمام فن حقيقي كل ما فيه يذهل و يدهش ، و يجعلك تنزع من قدميك ، و تمضي في عوالمها حافياً ، فأنت في محراب مقدس ، نعم أعماله أسرتني و جعلتني أوقن بأن الفن مازال بخير ، و بأن هناك من يصر أن ينتج الجمال بسلطانه و تاجه ، و بأن الفن يستحق بحق أن يكون ثروتنا الأغلى و الأبقى ، و رغم الظروف القاسية التي مر و يمر بها البلاد ، و من كل الجهات و الجبهات ، إلا أن هناك من يعرف قيمة هذه الثروة ، و لديه تطلعات كبيرة و ببجدواها ، فينتجها كي تكون خالدة و فاعلة و شاهدة على كل ما يحصل من مآس و أحداث مريرة لا تخلو من العنف في جوهرها ، و هذا ما يصنع النتاج الثقافي دون أية حالة تعارض مع الذات ، فآلام البحث عن الانسان و إنسانيته قريباً من الشروط الصحية العامة الواجب توفرها حتى يكون التفاعل الدينامي و التثاقف الطبيعي حرّاً لا بد من بلوغ صيغ تصالحية تفك قيود الإرث و تأخذ ضرورات توثيق الذات و المرحلة بعين الاعتبار ، فالبحث و آلامه قد يأخذ أشكالاً غير مألوفة حين تضطر الذات المبدعة إلى خلق نفسها بلغتها هي ، فكيف إذا كانت هذه اللغة ألوان لكل منها حقلها الجمالي و المعرفي يكسبها مصداقية إبداعية و تاريخية و اجتماعية في الوقت ذاته ، و في سياق قراءتها و ما يبث منها من أصوات تأسر الفنان أولاً ، و المتلقي ثانياً فإنها لا تخضع للتدجين و الإلغاء ، بل تخضع لقهر الآخر و ما يتصل بطبيعة وجعه ، فسعيد لا يستخدم لغة الظالم لكي يسجل وحشيته و بعض الذاكرة الدموية التي قد يخلفها ، بل يستخدم تلك اللغة التي تأخذ صفة الإشكالية المفتوحة للحفاظ على بنية العمل ، و على توازناتها الدقيقة ، فالتخييل الذي يلجأ إليه فناننا سعيد لا لإيهام المتلقي بشيء من الموضوعية ، و لا لكسب العمل المصداقية المطلوبة ، بل لجعله المنشط الذي سيجذب المتلقي إليه و بالتالي سيسهل عملية القراءة لديه ، و هذا يكسب العمل أيضاً مسحة جمالية تدفع المتلقي إلى التلذذ و الاستمتاع بها ، و إلى الموالاة إليها ، و لعل هذا بعينه هو الشغل الشاغل للمتلقي الذي يبقى على الدوام في حالة تنقيب عن فك رموزها للوصول إلى تفاصيل جمالها ، أقول رغم ظروف الحياة القاهرة جداً ، و رغم فقدان أبجدية الحياة ، و الأحوال في أسوأ ألوانها لدرجة فقدان و عدم توفر أولويات الحياة العادية ، البسيطة لم يستكن الفنان الحقيقي و لم يتعب ، بقي مستمراً في الإنتاج ، له مجمل رأيه في الأشياء ، فاعلاً فيها ، و في الأحداث ، شاهداً عليها ، تاركاً الأثر الكبير عليها و على متغيراتها بتجربة ترتفع إلى مستواها ، بكل وجعها و ألمها .
معن سعيد يرتقي بعمله إلى مستوى من الإبهام و التعميم ، و لا يسمي الأشياء بأسمائها ، و لا يحدد و لا يعين المراد منه ، و لهذا لا يرسم ذلك السلسال الذي يقودك إلى العمل ، بترك ذلك لمتلقيه ، ليتدبر رموزه و الطريق إلى فك أبجديته ، و الغور إلى عوالمه و معانيها المكتومة ، ليقطف لذاته ذلك السر الذي أودعه الفنان في أعماله ، و بذلك يساهم كمتلقي في إنتاج العمل و إرسال الروح فيه ، فعلى مستوى اللغة التي يوظفها سعيد في منتجه هي في حد ذاتها تدعم نزعاته الفنية ، و تساهم إلى حد كبير في تشكيل الأسلوب لديه الذي ينخرط في السياق العام للمنتج ، و هي في الحقيقة مقطوعات غير مبهمة تماماً ، بل ملهمة له في خلق صياغات جمالية ، طويلة و قصيرة تتعلق بمخاطباته التي تتمثل في مستوى من مستويات النص من ناحية قراءته أولاً ، و فهمه ثانياً ، و حينها سيتبين قدرته في ايجاد مكاناً ملائماً لسردياته الجمالية القائمة أساساً على التأمل و الوصف و التجريد الذهني ، و هذا ما يدفعنا إلى القول بأنه يميل إلى التجريد و الإيحاء ، رغم تبيان قدرته على استيعاب نصه ، و امتصاصه له في نسيجها التعبيري و جعله في خدمة أهدافها الفنية ، و إذا كان يريد أن يزرع الالتباس في نسيجه السردي ، و لدى متلقيه ، فإنه بارع في استدعاء ما يخدم هذا الهدف ، كالموسيقا مثلاً ، التي تمنح عمله احتفاء خاصاً إلى درجة أنها تذكره ، و تذكرنا معه بكل تلك الصور التي تقترن بشغف الانسان بأدواته و ما يحب و يعشق من جهة ، و من جهة أخرى بتلك الصور الدالة على القلق و الخوف و الغد المفقود ، تذكره ، و هذا أمر لا يتحمله معاً إلا تلك الصدور الحية النابضة بالإنسان ، و لا شك أن فناننا معن السعيد يملك ذلك الصدر الذي يجعله قادراً على استرجاع مشاهداته القديمة الجديدة الموغلة في العذاب ، فتعود به الذاكرتين البعيدة و القريبة معاً إلى تلك التجارب الحياتية القاسية في البلاد التي تتجاوز ما يمكن أن يتخيله المرء ، و يعول عليه كفنان في ترجمة آرائه و أفكاره عبر الألوان إلى أعمال تنطق بذلك الوجع الكبير ، و يعول على المتلقي الخبير و القارىء في فك تلك الشيفرات المقترنة بخطابه الإبداعي ، و بذلك تبدأ عملية رفع الستار و اللبس و الغموض عن صرحه الإبداعي ، عن مقولاته التي تتبلور فيه ، و التي يجمع سعيد فيها بين الرؤى المختلفة ، و يوفق فيها بين لا حياديته و بين تلك اللغة المتدفقة من بين هواجسه التي يمكن اختزالها في نصوصه التجريبية ، و لا نخص مرحلة معينة ، بل كل ما أعلن عنه ، بوصفه رافضاً للقوانين التقليدية السائدة ، دون أن يربك المقومات الأساسية لها و بالتالي لتجربته ، و هذا يتضح لنا من خلال ما تحيلنا إليها من أعماله التي نعتمدها هنا في قراءتنا هذه .
أشعر بأسى شديد ، و أنا أتنقل بين أعمال معن سعيد لما يحمله من أوجاع و آلام تهز الروح ، و بما بلغته الأحلام سن الشيخوخة ، و بما بلغته الجياد من غياب الصهيل ، فلم يعد هناك فرسان على الصهوات ترفع نصرها ، الخسائر تحيط بالمكان ، و بالانسان من كل الجهات ، نعم الأسى سيمتطيك ليجرك إلى أقبية الحياة التي باتت سجناً كبيراً فيها تمارس كل أنواع الظلم و العذاب و القهر ، و هذه الأعمال ذكرتنا بتلك الشخصيات بأجسادها التي لم تبقى منها إلا هيكلها العظمي التي نجت من الموت ، من أقبية سجون النظام السابق ، الظالم ، الوحش ، فكل أجهزة الحاكم حطمت الرقم القياسي بقسوتها و لا إنسانيتها ، نعم أعمال معن سعيد تأخذك إلى تلك السجون ، بفقدانها لكل شيء ، لأبسط وسائل الحياة ، و كأنه يقول لنا بأن البلد كله تحول إلى سجن كبير ، فمن لم يدخل أقبيتها عاش فيها بين شوارعها و أزقتها حيث الظلم و الجوع يلف الانسان كله ، و هل من وجع أكبر من هذا الظلم الجمعي الذي يفقد فيه الانسان كل شيء ، حريته ، كلامه ، نفسه. لقمة عيشه ، فالمعمورة السورية دخلت بحق موسوعة غينيس للأرقام القياسية ، محتلة المرتبة الأولى من بين المعمورة الكونية كلها في الظلم و العذاب ، فإذا كان الانسان السوري يشوى في سجون النظام السابق و ما أكثرها ، في صيدنايا و غيرها و هم على قيد الحياة ، هكذا كان أيضاً و هو خارجها ، فالجوع في كل مكان ، و خنق الحريات سمة النظام ، و ملاحقة أبناءها حتى في خبزهم و قوت يومهم ، و في هوائهم و مائهم ، فكأن الحكاية أشبه بخيال ، أو بقصة قادمة من الأساطير ، كيف استطاع هذا الانسان العظيم أن يتحمل كل ما حصل ، فكل ذلك أليس كافياً لإنشاء نص تشكيلي جديد من قبل فناننا معن سعيد ، الذي أنتج بالفعل نصاً قوامه الصدق و الإبهار ، و الاحساس الكبير ، فجمالية الإبهار مع توفر المستوى العال من المشاعر هي الرهان الفني الأساسي في هذه الأعمال الذي اعتمدناها في مقاربتنا هذه ، و هي جمالية تتطلب أساليب عديدة تتصل بالفنان و بمنتجه معاً ، فسعيد كان يتنبأ ما يحصل ، و يعلم خفايا الصدور ، و لهذا حين بدأ برواية الحكاية لنا ، كان صائباً إلى حد كبير ، و نظرته كفنان تسبق الحدث ، و لهذا حدسه كان عالياً يضج بالصدق و بكمية عالية من المشاعر إلى حد عدم إفراغ الشخصيات في مشهديتها من أبعادها النفسية و الاجتماعية و الإنسانية ، و لهذا استطاع أن يبدع مقومات إضافية كتشظي السرد و تعدد الحكايات خدمة لأغراض فنية ، جمالية .
معن سعيد لا يركض إلى الموضوع بداية ، مهما كان هذا الموضوع كبيراً و مهماً ، فهو يدرك بأن الموضوع في العمل الفني يأتي لاحقاً ، و متمماً له ، و لهذا لا ينخرط فناننا في هذه اللعبة الخاسرة و الضارة ، المباشرة و المضجرة ، و إنما يبدأ بخلق تكوينات لونية و شكلية ، و حين يحس بأن العمل أنجز من الناحية الفنية ، يبدا حينها بتحميله ما يشاء من الموضوعات ، قد يكون تنديداً للمجتمع العربي ، و الإنساني حين يترك شعب صاحب حق وحيداً أمام الترسانات الثقيلة لعدو غير عادل أبداً ، أو ما يعبر عن وحشية نظام ظالم ولى ، مارس كل وسائل التنكيل بحق شعبه ، من سجنه و صهره ، و شيه حياً ، إلى حرمانه من جميع حقوقه بما في ذلك لقمة عيشه ، أو يكون بورتريهاً يحمل كل تعب الأرض إشارة إلى اضطهاده و ظلمه ، أو حالة عشق ، أو جلسة كأس بحثاً عن الحب و الحياة و الفرح ، رغم كل خسائره ، رغم كل هزائمه ، فهو لا يتنازل عن ذلك البحث ، و عن تلك اللحظات ، و لهذا رغم أنه بات هيكلاً عظميا جراء جرائم النظام إلا أنه لا يتخلى عن آلته الموسيقية ، و لا عمن يحب ، أو قد يلجأ إلى الطبيعة و جمالها ، حيث الحلم و التسامح و الجمال ، أو حالة غزلية بين الطيور ، أو بين عاشقين ، رجلاً و امرأة يسرد كل منها للآخر مشاعره و أحاسيسه المقدسة ، أو عن المرأة التي تشكل عنصراً مهماً من جمال عوالم الفن و الألوان على نحو عام ، أو عن حالات الفرح و الحزن معاً ، أو كل ما يدعو إلى التأمل من خوف و قلق و رعب ، و حلم و حب ، فمعن يدرك جيداً معنى الفن ، و دوره كفنان ، و لهذا لم تأت أعماله مكتظة بموضوعات تطغى على جمالية عمله الفني ، بل جاءت لتزيد عمله جمالاً ، و قوة في مجمل نواحيها الفنية ، و لهذا جاءت أعماله كقصائد جريئة، غنية بالموسيقا و الأحاسيس ، بالتأمل و الخيال و الحلم .
معن سعيد من مواليد مدينة السلمية ، حماه 1966 ، بدأت علاقته مع الرسم و هو صغير حتى أنه قال : ” كان أول دفتر رسم لي هو مقعد الدراسة في الإبتدائية ، كنت أحاول أن أرسم أي شيء من الطبيعة ، الأشخاص ، الطيور ، و في الإعدادية شجعني الأستاذ الفنان المرحوم ناصر الشعار ، و كان للفنان رياض الشعار تأثيره الكبير علي . “
عضو اتحاد الفنانين التشكيليين في سوريا ، فرع حماه .
عضو في نقابة فناني الشارقة .
عضو في بصمة فن لفناني السلمية المتحدين .
قدم العديد من المعارض الفردية ، و الجماعية في كل من السلمية ، و في دمشق ، و الشارقة ، و في أربيل بكردستان العراق ، و من المفيد أن نذكر بأن معرضه الفردي الأول كان في عام 2010 ، الذي جاء بعد تقاعده من عمله الوظيفي ، و كان حينها في الخامسة و الأربعين من عمره .