فواز عبدي
في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..
تنّورها الطيني الكبير، ذاك الذي يشبه كوكباً مشتعلاً في باطن الأرض، كان يولد فيه الخبز كما يولد القمر من ضلع الليل: مستديراً، ساخناً، ينبض بالحياة. تلصق العجينَ براحتيها كما لو أنها تواسي حجارة حزينة، فيخرج الخبز منها وكأنه أول فرحٍ مسموع، أول عيدٍ شعرت به الأرض تحت قدمي؛ تفوح منه روائح الطفولة كأنّه يحمل تاريخ الأعياد كلّها في حافّته المحمّرة.
وفي الزاوية نفسها، سجادة صلاة أمي دائماً ممدودة… لكنها لم تكن تُفرش، كانت تُفرد جناحيها. رائحتها مثل نسمة داخل حلم، تفوح منها طمأنينةٌ لها لون. كنا نشعر أن دعاء أمي لا يُقال بل يُنقش في الهواء، وأن السجادة تحتفظ ببصمات جبهتها كأنها خريطة طريق نحو الله. سمعتها ذات يوم تقول في آخر دعواتها المرفوعة إلى السماء:
ــ “الله يحب الأطفال في العيد، أكثر مما يحب الزهور.”
ثياب العيد؟! كنّا نخبئها تحت الوسائد وكأنها كنوز مسروقة من الزمن القادم. نتحسّسها بأطراف أصابعنا كما نتحسّس أحلامنا القادمة، ولم نكن نلبسها طويلاً، فقط نلمس الحلم ثم نعيده لمكانه. كأن الفرح يجب أن يُستهلك على دفعات، كدواءٍ يُحذر من الإفراط فيه.. أحياناً كنا نتهامس قبل النوم:
ــ “أتظن أن البنطلون سيصير أوسع حين نركض فيه؟”
ــ “بل أظنه سيطير!”
ونكتم ضحكنا الطفولي.
في صباح العيد، قبل أن نغادر إلى المقبرة، كان آباؤنا يمنحوننا علبَ دخانٍ صغيرة، واحدة لكلّ طفل.
ــ “خذ… لتفرح أكثر.”
كانوا يقولونها بابتسامة مربكة، وكأنّهم يمنحوننا شيئاً لا نفهمه بعد، يمنحوننا جواز السفر لمغادرة الطفولة، لكن نحبّه لأنهم أحبّونا به.
نحمل العلب ككنوز، وننطلق.
أقدامنا الصغيرة تتبع الكبار نحو المقبرة، ، تتحرك بخفة، تحاول ألا تُزعج أرواح النائمين، كنا لا نفهم الحزن، بل نشعر أن “ياسين” أغنية قديمة تنفتح بها أبواب السماء. و حين تخطئ إحدى الجدّات وتقول:
ــ “قُل هو الله أحدٌ” بدل أن تقرأ الفاتحة. فتنهرها أخرى هامسة:
ــ “يا فضيحتنا مع الموتى!”
كنا نضحك مع ضحك الكبار مع أن معظمنا ما كان يفرق بين السورتين.
ثم تأتي لحظة السكاكر، تنثرها النساء فوق رؤوسنا، فنهجم عليها كطيور ونلتقطها كأنّها نجوم تساقطت من عيدٍ في السماء. كنا نظن أن الموت لم يعُد مخيفاً، بل صار صديقاً يعطينا الحلوى.
نعود من هناك محمّلين بانتصارٍ لا نعرف تفسيره، ونبدأ طقوسنا الخاصة، نطرق الأبواب كما لو كنا نوقظ الذاكرة.
– “صبها وه بخير، عيدا وه بمبارك”
نهتف بها، فتفتح النسوة القلوب قبل الأبواب والنوافذ، يملأن أكفّنا بالحلوى، وبعضنا كان يسرق الحلوى من الآنية بنفس خفّة الفرح حين يختطفك دون إذن.
وبعد الجولات، نجمع غنائمنا في زوايا الظل، ثم نركض نحو التلة… هناك، حيث الأرض تتنازل للسماء، نرمي الحجارة ونسمع صدى ضحكاتنا ترتدّ علينا كأنّ كندال يضحك معنا، أو علينا.
وعند النهر، تنتظرنا الخيول … كانت هناك، كأنها تعرف أننا أبناء الحكاية. نركض نحوها كما نركض نحو الأساطير، نمتطيها وتصبح الأرض صغيرة خلفنا. أحياناً لم تكن خيولاً، بل حميراً، لكن قلوبنا لا تفرّق، فالحرية لا تسأل عن نسب من يحملك، بل عن مدى اتساع جناحيك. كنا ننطلق من القصص ونعود إليها:
ــ “أنا أطير!”
ــ “وأنا أسرع من الضوء!”
ضحكاتنا لم تكن تعرف الفرق بين خيلٍ ونجمٍ، لأن الفرح لا يقيس المسافة… يقيس القفزة.
وفي المساء، حين يهدأ الركض وتتساقط النجوم على رؤوسنا من فرط التعب، كان الآباء يطلبون علب الدخان، يتفقدونها، ينظرون إلى ما تبقى فيها ثم إلى أعيننا.
ــ “أهكذا تنفثون الحلم؟ أم خبّأتموه لعيدٍ آخر؟”
فنضحك، نرسم بالدخان غيمات صغيرة في سقف السماء، نرسم أحصنة من دخان، وبيوتاً بلا أبواب، ثم ننسى أن نكبر.
كان العيد في نقّارة لا يزورنا، بل يخرج منّا… نرتديه ونحلّق به، ثم نطويه تحت الوسادة مع ثياب اليوم، وننام.
همس العيد في أذني مرة:
“ابقَ طفلاً ما استطعت، فالسماء لا تقبل إلا من جاءها خفيفاً.“