“أوجاعٌ لذيذة”

كاوا عبد الرحمن درويش

 

شهرٌ كاملٌ مرَّ اليوم على اجرائي عملية استئصال المرارة، شهرٌ مرَّ على مفارقة جسدي لقطعةٍ صغيرةٍ في حجمها، جبارةٍ عظيمةٍ في عملها. 

عشت قبل توديعها صراعاً مريراً مع الألم الذي اعتدت على زياراته الثقيلة كضيفٍ غير مرغوبٍ فيه، لا يطرق أبواب مضيفه إلا بعد انتصاف الليل على مدار سنواتٍ عديدةٍ بلا رحمة ولاهوادة. 

كنت أحسب نفسي سأطير حراً طليقاً بعد استئصالها، ولكنها لم تزل باقيةً تلقي بأغلالها عليَّ حتى هذه اللحظة.

قضيت هذا الشهر مستسلماً للفراش، أراقب الساعة وهي تزحف بثقلٍ، أُناجي السماء أن تمنحني وجميع المرضى الراحة والسكينة والشفاء. 

لطالما ظننتُ أنني سأقف على قدميّ سريعاً بعد هذا الفقد، وأنني سأعود إلى معارك الحياة بلا عناءٍ، ولكنها كانت تحكي لي كلاماً آخر وروايةً أخرى، روايةٌ حملت بين صفحاتها تحدياتٍ جديدة وأوجاعاً لم أكن أتوقعها، آلام وليال طويلة جعلتني أستذكر معاناة أمي وزوجتي وكل أمٍ تلد طفلاً في هذه الحياة، سواء كانت ولادةً طبيعية أو عمليةً جراحية تتألم فيها الأم كثيراً قبل العملية وأثناءها، لتخرج بعدها فتخوض معركةً صامتةً، وكأنها مُقاتِلةٌ عادت لتوها من ساحة حربٍ، تحمل في جسدها طعنات المعركة وفي نفسها مآسي التجربة، لتجد نفسها فجأةً في صراعٍ مع جسدٍ منهكٍ، يجاهد حتى يستعيد توازنه بعد أن فقد الكثير من صلابته.

 كل نَفَسٍ من أنفاسها، كل خطوةٍ تقوم بها تذكِّرها بأن الطريق نحو الشفاء ليس يسيراً، ومع ذلك لا تيأس، بل تستمر وتحمل على كتفيها عبء الأمومة، وتزرع في كل يوم بذور الحب والرعاية، تسهر مع وليدها حتى الصباح ولا تنام البتة حتى في الليلة الأولى وهي ماتزال قابعةً في المشفى، تحرص على أن لا يأخذها النوم فتسهو عن ارضاع صغيرها، تسهر عليه مع نسائم الفجر فتهدهده في سريره بحنوٍّ، وتدندن له وتمرح معه من فرحتها به، وهي في داخلها تبكي وتنوح من وجع جسدها، ولا تبالي في ذلك فحبها الكبير له يحول دون تسرب اليأس والوهن إلى فؤادها، حتى الجرح الغائر في بطنها والذي قد يعيّرها به زوجها القابع في الغرفة المجاورة وهو يحادث عشيقاته سراً أو جهراً عبر رسائل الهاتف لا تعتبره مجرد أثرٍ ماديٍ على جسدها، بل شاهداً أبدياً على لحظة ميلادٍ جديدةٍ، لحظةٌ امتزجت فيها الحياة بالألم، والضعف بالقوة والوحدة بالأُنس. 

 إنها رحلةٌ جميلةٌ، طويلةٌ مليئةٌ بالحب والايثار تستبدل فيها الأم الوهن والألم بالصمود والفوز، والشدة بالفرج، والبكاء بالفرح والبهجة. ورغم كل ذلك تظل المرأة_الأم أيقونةً للتضحية والجمال والعطاء، ونبقى نحن الرجال _مهما فعلنا اتجاهها ولأجلها_ مدينون لها قليلو الوفاء…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

يقال إن الأمثال خلاصة الحكمة الشعبية، لكن هناك أمثال في تراثنا وتراث المنطقة باتت اليوم تحتاج إلى إعادة تدوير عاجلة… أو رميها في أقرب سلة مهملات، مع بقايا تصريحات بعض المسؤولين. مثال على ذلك: المثل “الذهبي” الذي يخرجه البعض من جيبهم بمجرد أن يسمعوا نقداً أو ملاحظة: “القافلة تسير والكلاب تنبح” كأداة جاهزة لإسكات…

شكري شيخ نبي (ş.ş.n)

توقف ؛

على رسلك في المدى

الافق سوار من اللظى

عويل الجوعى

نداءات و جعجعة

وغزة توشحت بالصدى ..!

 

توقف ؛

على هدي الهديل

فالشارات حمراء

من جفلة الجلنار وزحام القذى ..؟

و ..دع الأمير يمر

أمير من غزة

يقطع الشك في المدعى

من سخام الحياة

إلى نور السماوات في المرتجى ..؟

 

توقف ؛

عند هذيان حمى الصبر وأنتظر ..

انتظر..

امير الصبر

حتى اكتمل رغيف القمر ..!

قطعوا عليه سبل درب…

ماهين شيخاني.

في شمال الشرق، حيث نمت سنابل الحنطة إلى جانب أعمدة النفط، بنت القرى سورها بيديها، وزرعت فوقه أشجاراً تحرس الأطفال من شمس الصيف ورصاص الغرباء.

كانوا يقولون:

– لسنا ضد أحد… فقط نريد أن نعيش.

لكن في دمشق، تبدّلت الوجوه.

الوجوه القديمة غابت، وجاءت وجوه جديدة: لحى غريبة، لغات غريبة، عيون لا ترى في الخرائط إلا الحدود التي…

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن.

أيُّ ضياعٍ هذا…

زوبعةٌ من آلام الماضي،

تدور بي حتى تخلعَت جذوري من أرضي.

 

الماضي… عَلقَةٌ غامقةُ اللون،

تختبئُ ف ي تلافيف عقلي،

تتنفسُ من دمي،

وتتركُ في أعصابي طنينًا لا يصمت.

 

لا تُمهلني هدوءًا،

ولا تسمحُ لجفني أن يستسلما لنعاسٍ رحيم.

 

أقفُ أمام المرآة…

أحدّق في وجهي كأنني أبحث عن طفلٍ ضاع في داخلي،

طفلٍ بعينين غارقتين في الخوف،

يقف في زاوية الغرفة

يتجنّب نظرات…