خلف الجدار. أنشودة العزلة المحاصرة دراسة في رواية “خلف الجدار” للكاتب “عبد الباقي يوسف”

جوان سلو 

 

* الجدران الصامتة تعشق العزلة. فهي تثير فيها رغبة الإنصات، الجدران التي تحتفظ بين شقوقها الأسرار والهموم، هناك يجد الاكتئاب لنفسه موضع قدم كي ينشر شبكة أوهامه في روح صاحبها المعتزل الذي يؤكد من خلال بث أحزانه للجدران مقولة: إن للجدران آذان.

في زوايا ذلك الصمت المطبق تنمو الأفكار كالأشواك في الصحراء، يتحدث الألم مع كل جدار، وتنسج الوحدة خيوطاً تلتف حول الروح.

هناك، حيث الكلمات تُصبح ثقيلة، ويغدو الزمن ساكناً كالصخر، يُحاصر الحزن قلب العزلة، ويكتمل الفراق في صمت الليل. لكن في ذلك الحزن الهادئ، يولد بريق الأمل من رحم الظلام، لتنبت في روح العزلة بذور جديدة، وتبدأ رحلة العودة نحو النور. هنا الجدران تخرج من كونها عبارة عن حجارة مرصوفة فوق بعضها، تحصر ما بين زواياها الأربعة كياناً روحياً متعب الجسد، إلى شيء مكون من ذكريات مرصوفة ومتراصة. تجثم فوق قلب ذاك المعتزل الحزين.

* صدر حديثا عن دار ميزوبوتاميا للنشر والتوزيع والترجمة في سوريا. قامشلي. رواية للكاتب الكردي السوري عبد الباقي يوسف بعنوان “خلف الجدار” بغلاف من تصميم رامي مسور.

الرواية الفائزة بجائزة دبي الثقافية للرواية العربية عام ٢٠٠٢، وجاءت في ١٠٤ صفحة من القطع المتوسط.

* قدّم لنا الكاتب عبد الباقي يوسف بعبقريته الروائية شخصية راجي الذي امتهن العزلة، مسببة له نوعاً من الهشاشة النفسية وضعف الشخصية وانعدام الثقة، واصفاً شخصية البطل بكثير من التأني والصبر ومن خلال مشاهد تصور واقعه اليومي، جاعلاً من جدران منزله المتواضع سجنه الأبدي، كون راجي هذا الرجل الذي فقد كل مقومات الحياة والأمل في نفسه، فنجده يتعرى من أسماله حين يدخل بيته ويغلق الباب من خلفه، ويصب الماء البارد على جسده، رغبة منه في تعذيب ذاته وجسده وبث همومه لجدران منزله الصامتة.

يتذكر راجي بعض المواقف والأحداث، وينسى بعضها الآخر، مستذكرا الكلمات والدموع والشعور بالخذلان، حيث حفرت هذه الكلمات في ذاكرته مسارات من الألم، لا طاقة له لمواجهتها، خاصة ذكريات الطفولة والسنوات الأولى من الدراسة، وحتى التخرج من الجامعة.

لقد كانت لشخصية أمه ومشهد موتها بالغ الأثر في غرس شتلة الاكتئاب في روحه التي ما لبثت تكبر هذه الشجرة وتنمو حتى غطت أوراقها واغصانها الشوكية سماء روحه وحياته، ومن ثم جاء مشهد موت حبيبته حين دهستها سيارة تحت عجلاتها وفارقت الحياة مضرجة بدماءها، كي تحطم آخر حصونه، لينهار ويتهاوى ويسقط في هاوية الاكتئاب والضياع النفسية.

فكانت الجدران الحجرية ملجأ أسراره وموطن أوهامه وخوفه من الخروج إلى الشارع إلا لجلب رسائل من أصدقاءه والذي يوماً بعد يوم صار ينسى أسماءهم وتاريخهم.

في لحظة ضياع تأتيه رسالة من كلناز، الرسالة التي يتحاور معها راجي حين يقرأها وهي تبث في نفسه تناقضات الحياة ما بين الخير والشر. الحب والكره، الحياة والموت، الفرح والحزن، القضاء والقدر، وفي نهاية الرسالة والرواية على حد سواء تطلب منه أن يدرك قيمة الحياة ويتجاوز ألمه، وتدعوه إلى الخروج من سجنه الحجري والنفسي، ويفتح نافذة لروحه من جديد، لربما يجد الحياة.

هذه الرواية التي جاءت كقطعة واحدة بدون فصول، وبأسلوب أدبي فريد من نوعه، و بلغة سردية متكاملة المعالم، هي ليست مجرد قصة عن العزلة والاكتئاب، بل هي دعوة للتأمل في النفس البشرية وكيفية مواجهتها للصعوبات والأحزان.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مروان شيخي

المقدّمةُ:

في المشهدِ الشِّعريِّ الكُرديِّ المعاصرِ، يبرزُ الشاعرُ فرهادُ دِريعي بوصفِه صوتاً خاصّاً يتكلّمُ من عمقِ التجربةِ الإنسانيّةِ، لا بوصفِه شاهداً على الألمِ فحسبُ، بل فاعلاً في تحويلِه إلى جمالٍ لغويٍّ يتجاوزُ حدودَ المكانِ والهويّةِ.

ديوانُه «مؤامرةُ الحِبْرِ» ليسَ مجرّدَ مجموعةِ نصوصٍ، بل هو مساحةٌ روحيّةٌ وفكريّةٌ تشتبكُ…

غريب ملا زلال

سرمد يوسف قادر، أو سرمد الرسام كما هو معروف، عاش وترعرع في بيت فني، في دهوك، في كردستان العراق، فهو إبن الفنان الدهوكي المعروف يوسف زنكنة، فكان لا بد أن تكون حياته ممتلئة وزاخرة بتجربة والده، وأن يكتسب منها بعضاً من أهم الدروس التي أضاءت طريقه نحو الحياة التي يقتنص منها بعضاً من…

أحمد مرعان

في المساءِ تستطردُ الأفكارُ حين يهدأ ضجيجُ المدينة قليلًا، تتسللُ إلى الروحِ هواجسُ ثقيلة، ترمي بظلالِها في عتمةِ الليلِ وسكونِه، أفتحُ النافذة، أستنشقُ شيئًا من صفاءِ الأوكسجين مع هدوءِ حركةِ السيرِ قليلًا، فلا أرى في الأفقِ سوى أضواءٍ متعبةٍ مثلي، تلمعُ وكأنها تستنجد. أُغلقُ النافذةَ بتردد، أتابعُ على الشاشةِ البرامجَ علّني أقتلُ…

رضوان شيخو

 

ألا يا صاحِ لو تدري

بنار الشوق في صدري؟

تركتُ جُلَّ أحبابي

وحدَّ الشوق من صبري.

ونحن هكذا عشنا

ونختمها ب ( لا أدري).

وكنَّا (دمية) الدُّنيا

من المهد إلى القبر..

ونسعى نحو خابية

تجود بمشرب عكر..

أُخِذنا من نواصينا

وجرُّونا إلى الوكر..

نحيد عن مبادئنا

ونحيي ليلة القدر

ونبقى…