جثّة في النحو

خالد إبراهيم

 

أنا لستُ واضحًا

لأن الوضوحَ خيانةٌ موقعةٌ بالحبرِ الرسمي

ولأني، حين كتبتُ أول جملةٍ

كانت دمشقُ تنزفُ من فمِ اللغة

وكانت القصيدةُ تتقيأُ جثثًا بحروفٍ من فوسفورٍ أبيض.

 

أنا لستُ واضحًا

فالوضوحُ خيانة

ولأن الذي كان يكتب التقارير في أول الثورة

هو اليوم جثةٌ بلا هويةٍ

في ساحلٍ لم يعد يعرف اسم البحر

ولا وجه الريح

 

أنا لا أكتب

أنا أقتصُّ من النحوِ كما يُقتصُّ من الأمهات

أذبحُ الفاعلَ على مرأى من المجاز

وأغتصبُ الفعلَ بضميرٍ ميتٍ منذ عامِ المجزرة.

 

المفعولُ به؟

طفلٌ تُركَ في ثلاجةِ مستشفى تحت الصفر

يصرخ في منتصفِ الجملة ولا أحد يجيء.

هل تسألني عن البلاغة؟

البلاغةُ في سوريا هي:

أن تقول “السلام عليكم” في ممرٍّ عسكري… وتنجو!

 

أنا لا أكتبُ الشعر

أنا أحشو القصيدةَ بأظافرِ المعتقلين

أغلفُ المعنى بلحومِ الذين نسيتهم القنوات

وأقذفُ الحقيقةَ في فمِ اللغة كما يُقذفُ الرضيعُ في البحر.

 

أنا من رأى النحوَ يُصلبُ على حائطٍ في حلب

والحالَ يُدفن حيًا في ريفِ إدلب

والجملةَ الشرطية تُقصف قبل أن يأتي جوابها.

فمن بقي من قواعدِ اللغة؟

النقطةُ شنقت نفسها

والفاصلةُ قُطعتْ بالمنشار في قبوِ القصر.

اقترب…

لكن لا تنظر إلى كردستان

فهي الجرحُ الذي حاولهُ الجميعُ ولم يلتئم

الأنشودةُ الممنوعة

والطفلُ الذي رُسمَ علمُهُ بالطبشور، فداست عليه دبابة.

 

أنا لا أكتب شعرًا

أنا أزرعُ ألغامًا تحت عتبةِ الفصاحة

أُربكُ القارئ حتى يشتبهَ بلغته

ويُراجع نسبَ ضمائره.

 

أنا من رأى الحاءَ تُقتل في “حرية”،

والراءَ تُصلب في “كرامة”،

والياء تُجلد في “يا الله”،

والنون تُغتصب في “نحن”

 

أيها القارىء

اقترب

لكن لا تفتح عينيك

البصيرةُ في بلادنا تُقلعُ قبل البلوغ.

ولا تفهم

فالفهمُ هو أولُ خطوةٍ إلى المقبرة

والدهشةُ تهمةٌ أمنية.

 

دعنا نضحك

لكن ليس معًا

الضحكُ الجماعي محظور

فلنضحك منفردين حتى لا نُتهم بتشكيلِ فرقةٍ أدبيةٍ مسلحة.

دعنا نضحك حتى تنكسر اللغةُ من فكِّها

حتى يصدر أمرٌ بإعدامِ القافيةِ بتهمةِ الانتماء للقصيدة.

 

في بلادي

القصيدةُ تُفتّش على الحواجز

والقصصُ تُعدم على الفيسبوك

والنثرُ يُنحر لأنه يشبه الحقيقة.

 

أنا لا أحمل معجمًا

أنا أحمل سجلّ وفيات

أُقلبُ صفحاتهُ كأنني أراجعُ تصريفَ الأفعال

كلهم ماضٍ ناقص:

استُشهد، اغتيل، اختفى، تفسّخ.

 

أنا من خطَّ على جبينِ اللغة:

“حريّة”

فاحترقت الصفحةُ

وامّحت الحروفُ

وانفجرت الذاكرة.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.
رفوف كتب
رفوف كتب
وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

مصدق عاشور

مصلوبةً بخيوطِ شمسِ محبتك

يا من كشفتِ لي

سرَّ التجلّي

ووشمَ الحنين على جبينِ الانتظار

أنتِ ميناءُ روحي

قولي: متى؟

قولي: لِمَ البُعادُ

في حضرةِ ثالوثِكِ السرّي؟

رياحُكِ تعبرُني

كأنّي فرسُ الطقوس

وفي قلبي

تخفقُ فراشةُ المعنى

قولي لي متى؟

قولي إنكِ

فراشةُ رؤياي

وساعةُ الكشف

أرسِميني في معموديّتكِ

بقداسةِ روحكِ

يا من نفختِ الحياةَ في طينِ جسدي

حنينٌ

كمطرٍ أولِ الخلق

كموجِ الأزمنةِ الأولى

يتدلّى من ظلالِ أناملكِ

 

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …