“حين يدقّ المطرُ النافذة”

ماهين شيخاني

في تلك الليلة، كانت المدينة تغرق في عتمةٍ خرساء، لا ضوءَ إلا من ومضات البرق العابرة، ولا صوتَ إلا دندنة المطر وهو يدقّ على النوافذ بإلحاح. جلسَ “سليم” على كرسيه الخشبي قرب النافذة، يحتضن كوباً من الشاي البارد، ويتأمل الزجاج الذي تعرّق من شدة البرد، كما لو أنّ النافذة تبكي بدلاً عنه.

كانت “سلوى” تحبّ المطر. تقول له دائمًا: “المطر يغسل القلب من الغبار”.

ولكن المطر لم يغسل شيئاً تلك الليلة… بل بعثر كل ما حاول أن ينساه.

على الزجاج، رسمَ بأصابعه المرتجفة أول حرفٍ من اسمها… ثم مسحه على الفور. خاف أن يراه أحد، مع أنه لم يعُد هناك أحد ليرى، لا في البيت، ولا في قلبه.

كانت غادرت فجأة، بعد أن اجتاحت الحرب المدينة، واختطفها قطارُ اللجوء إلى حيث لا يقدر هو على اللحاق. لم تكن الكلمات تكفي لتفسير الوداع، ولا المكالمات المتقطعة عبر الحدود تعبّر عن وجع الاشتياق.

انقطعت الكهرباء عن الحيّ بالكامل. وكأن العتمة كانت تحترم حزنه. أشعل شمعة، فقط كي يرى ظلّها على الجدار، ذلك الظل الذي كان ذات مساءٍ يحتضنه. والمطر… كعادته، ظلّ يقرع النافذة، كأنّه يُقلّد طرقاتها الخفيفة حين كانت تأتي متأخرةً من مدرستها، وتعتذر بابتسامة.

لم تَعُد.

وبقي هو في المكان نفسه، يُحصي قطرات المطر، كمن يعدّ سنوات الغياب.

لم تغادره فجأةً كما توهّمَ في بادئ الأمر…

بل الحربُ سرقتها منه، كما سرقت كلّ شيء جميل في هذه البلاد.

استشهدت سلوى في أحد التفجيرات العشوائية، كانت تمشي في طريقها إلى منزلها حاملةً حلمها البسيط وحقيبتها التي كانت تحتوي على صفحات كتبت فيها ذكرياتهما معًا.

لم يودّعها، ولا حتى تمكن من سماع آخر همساتها في الهواء.

لكنه في تلك اللحظات، في غياهب الليل والدموع، تتسلل الذكرى إلى قلبه كخنجر بارد، ليعود عقله إلى يومٍ لن ينساه أبدًا. يوم 22 شباط.

كان ذلك اليوم الذي لم يكن مجرد موعد، بل بداية حلمٍ كُتب لهما في لحظة صفاء.

في ذلك اليوم، كان المطر يُغسِل كل شيء حولهما، وكان الوقت كأنه توقف عن الجريان ليترك لهما لحظة خلود، حاملة في طياتها كل ما هو جميل في الحياة.

كان حديثهما عميقًا، أكثر من مجرد كلمات. كانت تلك اللحظة في عيونها، في عينيه، في الهواء الذي تنفساه معًا، أقوى من أي وعد أو عهد.

هل تتذكرين، سلوى؟

كان السؤال يتردد في قلبه، كأنها هنا، بين يديه، تنظر له بابتسامة ذلك اليوم، حيث اختلط المطر مع ضحكاتهما، وأصبحا معًا لا يفترقان.

ولكن الآن، حينما تطرق قطرات المطر نافذته، تسائل قلبه: هل كانت تلك اللحظة حلمًا أم كانت الحقيقة الوحيدة التي عاشها؟

هل كانت تراه في السماء الآن، بين الغيوم؟ أم أن الذكرى وحدها هي التي تبقى، تواسيه، وتخبره أن الحياة كانت يومًا جميلةً، حتى وإن ضاع منها كل شيء؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…