إبراهيم اليوسف
صباح كئيب، لم يكن يشبه سواه.
رنّ الهاتف، فكان الصوت الذي حمله إليّ كالسهم المباغت: “هل سمعت نبأ رحيل ابن الخال، أبي جوان – سيد أحمد ملاحسين؟”
الصوت كان صوت ابن خالنا محي الدين عبد عبدي، والنبرة كانت مترددة. التردد الذي أفهمه. كأنها تبحث عن ذريعة لتؤكد أن الخبرليس إلا امتداداً لحلم ثقيل، لا عن خبر يقين.
تمنيت للحظة أن يكون كل ذلك من نسج كابوس عالق بذيل نومٍ مبتور:هل يعقل أن يغيب أحمد، بهذه البساطة؟!
هل يمكن أن يكون شخصٌ مثله هدفاً لسخرية إلكترونية رخيصة، من أولئك الذين يعبثون بأقدار الناس في المنشورات السوداء؟
لكنني أعرفه، وأعرف جيداً أن اسمه أكبر من أن يندسّ في عبث، ولو من قبل صبية أنترنت مستهترين.
فالذين يعرفونه، يعرفون أنه كان من أولئك القلائل الذين لا يمكن لأحد حتى من المغرضين أن ينال منهم، لا في سرّهم ولا علنهم.
كان العم السيد أحمد، أبو جوان، نسيجاً نادراً من الصفاء الإنساني. رجلٌ تجمّعت فيه كل الخصال التي باتت تندر أو تختفي في زحمة هذا العالم:
النبل، الطيبة، الصدق، الوفاء، الورع، الإيمان، وحسن المعشر…
كان صموتاً، لكنه إذا تكلم، أغناك صوته بالحنان.
إذا حضر، شعر من في المجلس بأن للمكان روحاً،
وإذا غاب، لم يكن الحزن وحده ما يُستدعى، بل الفراغ أيضاً.
رجل مصالحة، لا يسكنه ضغينة.
يتحرك في محيطه كأن مهمته أن يُصلح ما تكسّر في نفوس الآخرين، أن يربت على أرواحهم، أن يعيدهم إلى أنفسهم.
عرفت فيه – في سنواته الأخيرة على وجه الخصوص- تلك الملامح التي كنت أراها على وجوه بعض راحلينا قبل سنوات بعيدة. بعض أقربائي من القرى الكردية في أعالي جبال باكور- كردستان تركيا:
بسطاء، صادقون، يسيلون إنسانية بفطرتهم،
يحبون بلا مصلحة، ويتسامحون بلا حساب،
ويتألمون بصمت لا يثير الشفقة، بل الإعجاب.
هكذا روح الكردي في فطرتها وبساطتها!
أبو جوان كان يكبرني سنًّا.
ولهذا فإن من تقاليد عائلتنا أن يخاطب ابن العم الأصغر مثيله الأكبر سناً ولو بشهر: عماه!
كان أحد أوائل من سبقونا إلى الدراسة من العائلة
وحين يُذكر يتمه المبكّر، تشعر أن الله قد ملأ قلبه عوضاً عن ذلك بفائض الحنان، ليتحوّل إلى شقيق أكبر، وأب مبكّر، وركنٍ في بيتٍ شامخ بأعمدته وأركانه في مواجهة الريح، في زمن كان جد صعب.
عمل سنوات طويلة موظفاً في مؤسسة مزارع الدولة.
كان ملتزماً كأن الوظيفة عهد
وما إن تقاعد، بعيد الحرب، حتى هاجر مكرهاً إلى ألمانيا ، كي يستقر في- هانوفر- حيث سبقه أبناؤه، وبقي هناك، في تلك المدينة الباردة، حتى لحظة رحيله الأخيرة.
لكنه لم يرحل كليًّا.
فروحه، لا تزال ترفرف قرب تراب القرية التي ولد فيها والتي سيعود إليها
قرب مقام والده، العم الشيخ حسين شيخ محمد شيخ سعيد
قرب مقام أمه المرأة الكردية الطيبة الأصيلة.
هناك، في تلك الزاوية من كردستان سوريا، حيث التراب يعرفنا واحداً واحداً
وحيث الحنين ليس مجرد شعور، بل جذر.
يحزنني أن ترقد بعيداً عن المكان الذي شهد بكاءك الأول.
يحزنني أنك لم تودّع شجرة البيت، هناك،
ولا عتبة البيت الذي كنت تسنده بصمتك.
حاملاً معك شجرة العائلة وتواريخها
يحزنني أن تكون بيننا، ولا نستطيع أن نمدّ أيدينا لنودّعك
أن تكون في مدينة أوروبية ونحن نوزع الحزن في مدن أوروبية أخرى
كما لو أننا أوراق خريف نثرتها الريح بعيداً عن الشجرة الأم.
أحمد حسين، الرجل الذي دخل الحزب اليساري الكردي حين كان الحلم السياسي فورة قلب شاب،
لكنه حين خرج منه، لم يخرج من مبدئه
ولم يساوم على قوميته، ولا على كرديته، ولا على إنسانيته العلامة الفارقة لتربيته العائلية
ظل كما عرفناه:
معتزًّا بجذوره، هويته، وانتمائه، حتى الرمق الأخير.
لقد فُجع برحيل إخوته تباعًا
الأخ الأكبر من أبيه، السيد سراج
ثم سيد محمد نوري. رجل الحكمة نهر الحنان
وسابقًا، شقيقهم الشهيد سيف الدين الذي غاب في أعالي جبال صنين
وكأن سلسلة الفقد كانت تحاك لتعد له معطف الوداع.
لكنك اليوم، أنت من غاب
وغابت معك خصالك التي يصعب استنساخها
لكنها تقرأ
فلا التكنولوجيا تعيدك إلينا
ولا اللغة تستطيع أن تفيك حقك.
عد، إن استطعت، إلى حيث وُلدت،
إلى تراب والدك، إلى حضن أمك،
إلى الأرض التي لم تنكرك يومًا،
عد، كي يرتاح قلبك قرب من أحببت،
ولتسكن روحك هناك، في المكان الذي لم يغادر قلبك رغم الغربة.
سلام عليك، يا أحمدنا الأحمد،
يا من علّمتنا أن الإنسان يمكن أن يكون كبيرًا بلا صخب،
وأن الحبّ الصامت أصدق من ألف ضجيج.