أيام المراعي الشمالية

د. علي صالح ميراني

في حضن الجبل، حيث تُروى الحكايات بصمت النسيم، وتنطق الأرض بألسنة العشب، لاحت من بعيد نسوة يُسابقن الريح بخطواتهن الوئيدة، يتأوهن تحت وطأة أوانٍ نحاسية تتهادى فوق رؤوسهن، كأنهن يحملن ذاكرة الأرض مطرزا بصبر الأمهات.

في الواقع، كان الكلب الكهل، رفيق الراعي العجوز، يخطو معه كظله، في مسيره واستراحاته، وكأنهما تقاسما العمر والود والوحشة، والخيام المتربعة على الربوة المستوية، تعانق الجبل بلا تكلّف، كأنها جزء من روحه، تنبض مع نبضه، وتحتمل صمته وصرخته معًا.

إلى جانب الراعي العجوز، وقف الراعي الشاب يتعلم أصول الحياة من جذورها، كيف يُعد العلف ويُحاور الطبيعة، ويُعامل القطيع كأبناء لا كحيوانات.

أدواتهم البسيطة منسجمة مع تلك الحياة القاسية والجميلة، أدواتٌ تشي بأن في البساطة سر البقاء، وفي الانسجام مع البيئة سر الفرح الصامت.

يرفعون العلف بأدواتهم فيتطاير في الهواء كغبار الذهب، ثم يفرشون الأعشاب الجافة للغنم، كمن يفرش بساط الروح التائهة للملائكة.

ومن بعيد، كان حمارهم المربوط يحرّك أذنيه ببطء، يرقب المشهد بصمت يشبه تأمل الحكماء، وعلى قمة الجبل، بدأت الأشجار والأزهار الملوّنة تميل برؤوسها بخجل، تلامس الأرض وتوشوشها، فتكتمل لوحة الجبل بألوان دقيقة، كأنها ريشة خفية من نور تُعيد رسم الوجود في كل صباح.

يتحدث الراعي العجوز عن الجبل كمن يتحدث عن أمه، عن معلمه، معشوقته، عن قوة غامضة تهبهم سعادة بدائية لا تعرف الزيف.

والمرأة في ذلك المكان ليست مجرد جزء من المجتمع، بل نكهته وعبيره، فهي الكائن المعطر برائحة خبز الصاج، الذي يملأ الصباحات بندى الروح وأناقة العطاء.

في الحقيقة، الخبز الساخن والجبن الطازج هما الطقسان المقدسان لفطورهم، بينما الأطفال يُفضلون الزبدة التي أبدعت الأم في صنعها، بأصابع تفيض حنانًا.

وجواربهم المثقوبة، وإن خذلتهم، فإنها لا تمنعهم من الطواف فوق الجبل، فالأقدام تعرف الطريق، وتحفظه حتى حين يخذلها النسيج.

يلامس هواء الجبل خدود النسوة برقة العاشق، ويرسم عليها حمرة الحياة، ويزيد وجوههن ألقًا فطريًا، كما لو أن الجمال يسكن في الخشونة أحيانًا.

الرعاة يحبون أغنامهم كما يحبون أطفالهم، يرعونهم ويراقبونهم ويقلقون لأجلهم، تعبهم لا ينتقص من فرحهم، ولا من نقاء قلوبهم، وحين يعودون من المراعي، تبدأ طقوس أخرى من الرعاية: تحضير الماء، فحص القطيع، النظر في أوجاعه الصغيرة، معرفة من انكسر أو مرض أو تأخر، ثم التصرف بحكمة الجبل ودراية الأيام.

كل راعٍ هناك هو معلم روحاني، يعرف أسماء أغنامه، ويفهم لغتها، ويحفظ مزاجها كما لو كانت قطعة من قلبه.

في المساء، حين تتهيأ الأغنام لاستقبال صغارها، تتسابق الخطى الصغيرة نحو الأمهات، تُرضع وتداعب وتشم، في لحظة نقية تشبه الميلاد الأول.

للرعاة مأوى بدائي، كوخ من القصب وأغصان الشجر، بسيط كالحياة، لكنه قوي كقلب الراعي، يحميهم من غضب الطبيعة وذئاب شباط الجائعة.

لا تضل الأغنام طريقها، وتعرف المكان، وتسرع إليه كمن يعود إلى حضن أمّه عند أول قطرة مطر.

أما النسوة، فحين تهب العواصف، يرجعن إلى خيامهن، يحملن تعب النهار في صدورهن، ويدفئن المساء بأحاديثهن ونار الصاج.

هكذا تمضي أيام المراعي الشمالية، موشحة في تقويم الجبل، في دفتر الغيم، وفي ذاكرة الأرض التي لا تنسى من مشى فوقها بأقدام من صبر ومحبة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…