دوستويفسكي وملحمة النفس البشرية: قراءة في “الإخوة كارامازوف”

خوشناف سليمان ديبو

 

يُعد الأديب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي من أبرز وأعظم الروائيين في تاريخ الأدب العالمي. فقد أدرِجت معظم أعماله ضمن قوائم أفضل وأهم الإبداعات الأدبية وأكثرها عبقرية. وتكمن أعظم ميزات أدبه في قدرته الفذة على سبر أغوار النفس البشرية، وتحليل خفاياها ودوافعها العميقة. قراءة رواياته ليست مجرد متعة سردية، بل رحلة فكرية وروحية تُلهم القارئ وتدفعه للتأمل في جوهر الوجود، ومعنى الخير والشر، والإيمان والشك.
من بين روائع دوستويفسكي، تتربع رواية “الإخوة كارامازوف” على عرش الأدب الخالد، وهي آخر أعماله الكبرى، وقد نُشرت لأول مرة عام 1880.
تلخيص مكثف للرواية:
تدور أحداث الرواية حول عائلة “كارامازوف”، المكوّنة من الأب فيودور كارامازوف، رجل فاسق فظ، وثلاثة أبناء من زوجتين مختلفتين:
ديمتري: الابن الأكبر، متهوّر، تحكمه الشهوات والعواطف العنيفة.
ايفان: الابن الأوسط، مثقف لامع، يعاني أزمة إيمان وجودية.
أليوشا: الابن الأصغر، تلميذ في الدير، ويُمثل البُعد الإيماني المتسامح.
وهناك أيضا سميردياكوف، الخادم الغامض، والذي يُطرح لاحقا كابن غير شرعي محتمل للأب.

يُقتل الأب في ظروف غامضة، وتُوجه أصابع الاتهام إلى ديمتري بسبب خصومته الشديدة مع والده، لا سيما حول الميراث وامرأة تُدعى غروشينكا.
لكن الرواية، رغم انطلاقتها من جريمة قتل، ليست مجرد قصة بوليسية، بل ملحمة فلسفية وفكرية تُبحر في أعمق أسئلة الوجود: الإيمان، الإلحاد، الجريمة، العدالة، الحرية، والضمير.

صراع الأرواح الثلاث:
الرواية لا تحكي فقط عن مقتل أب فاسق، بل عن صراع ثلاث أرواح داخل كل إنسان :

ديمتري: رجل منفعل، مهووس باللذة والشرف والانتقام. تراه ينهار من الداخل، يبحث عن حب صادق، يعيش على حافة السقوط الأخلاقي. يعيش صراعا بين اللذة والندم، بين الغريزة والرغبة في التوبة والخلاص.
إيفان: العقلاني المتشكك في وجود الله وعدالته، يثور على الظلم الإلهي كما يراه، ويقدم حوارات من أروع ما كُتب في الأدب الفلسفي، منها حديثه عن “معاناة الأطفال” و”المفتش الكبير”. يرفض الشر باسم العقل، ويتمرد على صمت الله أمام الألم البشري.
أليوشا: الروح الهادئة، المحبة. رجل الإيمان الراسخ، يرى النور في عمق العتمة، ويُجسد التسامح وسط عالم مضطرب.
أما سميردياكوف، فهو الشر الصامت، المتكوّن من الإهمال والتهميش، الذي وجد في أفكار إيفان حول “غياب الله” مبررا للفعل الشنيع.
أما الأب فيودور، فيُجسد سقوط الإنسان حين يتخلى عن الضمير والإيمان. قُتل جسديا، لكنه حيّ في أبناءه، كل بطريقته.

رمزية الشخصيات:
كل أخ لا يُمثل شخصية مستقلة فقط، بل هو صوت داخلي في أعماق النفس البشرية. وهنا تتجلى عبقرية دوستويفسكي: فكل قارئ يجد نفسه في أحد الإخوة، أو ربما في الصراع بينهم جميعا. الرواية لا تدين أحدا، بل تدعو القارئ إلى التأمل العميق في الخير والشر، في الحرية والخوف، في الإيمان والشك.

الفصل الأروع: “المفتش الكبير
يُعتبر هذا الفصل من أرقى ما كُتب في تاريخ الأدب والفلسفة. يتخيل إيفان أن المسيح يعود إلى الأرض في زمن محاكم التفتيش، فيُسجن من قِبل الكنيسة، التي تقول له:

“لقد أفسدتَ علينا الناس حين منحتهم الحرية.. الناس لا يريدون الحرية، بل الخبز والأمان.”
يطرح الفصل أسئلة وجودية حارقة: لماذا يتعذب الأبرياء؟ أين الله؟ وهل نحتاجه أصلًا؟
هنا يظهر جوهر “الإلحاد الأخلاقي”، حيث لا يُنكر وجود الله، بل يُرفض عالم لا يُفهم عدله.
رواية “الإخوة كارامازوف” ليست مجرد كتاب تقرؤه، بل تجربة روحية وفكرية تهز القارئ من أعماقه، وتجبره على مراجعة معتقداته ونظرته إلى الإنسان والحياة والكون.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…