“تبغ الفجر” قصص علي جازو تكتب هشاشة الجسد واللغة

أصدرت منشورات رامينا في لندن حديثاً المجموعة القصصية “تبغ الفجر” الشاعر السوري الكردي علي جازو، في كتاب يضم اثنتين وعشرين قصة قصيرة تتنوع بين النصوص اليومية المكثفة والمقاطع التأملية ذات الطابع الشعري والفلسفي.

تتّسم قصص المجموعة بأسلوب سرديّ دقيق، يبتعد عن الزخرفة اللغوية ويميل إلى الكتابة من الداخل. الشخصيات تتحدّث من دواخلها لا من مواقفها، وتُركّز على تفاصيل عميقة قد تبدو هامشية، لكنها تكشف هشاشة بليغة ومزمنة.

في قصّة “تبغ الفجر”، التي أعطت المجموعة عنوانها، يتابع القارئ بطلاً منهكاً، يتجوّل بين الرغبة في التبغ والندم على الحياة، بينما تحضر الأسئلة الكبرى – الجسد، الموت، العزلة، الحب، وحتى العبث السياسي – عبر تفاصيل منزلية باهتة.

على الرغم من أن المجموعة لا تقدّم نفسها بوصفها سرداً عن الكرد أو عن المنفى، إلا أن خلفيتها الكردية لا تغيب عن المشهد العام للنصوص. الانتماء القومي والسياسي والاجتماعي يظهر من خلال الأسئلة العالقة، لا من خلال الشعارات.

في قصة “شارع الأحزاب”، على سبيل المثال، تبرز مفارقة الالتحاق القسري بالجندية والخدمة الإلزامية في دولة لا يثق الكاتب بها، ولا يشعر بانتمائه الكامل إليها. في المقابل، يغيب المكان الآمن الذي يمكن أن يمثّل بديلاً. إنه نصّ يكتب هوية تمّ تفريغها من جغرافيتها ومن يقينها الأخلاقي.

تعمل اللغة في مجمموعة “تبغ الفجر” بوصفها أداة كشف لا أداة تجميل. يستخدم الكاتب جُملاً قصيرة، متوترة، وتأتي كما لو أنها كُتبت في لحظة وجدانية خاصّة. لا زخرفة، لا استعارات مبهجة، إنّما صور دقيقة – حادّة أحياناً – تقطع السرد كما يقطع الصمتُ الكلام.

لا يعرض الكاتب بوحاً رومانسياً، لكنه يمارس تفكيكاً يومياً للذات في مواجهتها لجسدها، لوحدتها، وللمجتمع من حولها. يقول في أحد المقاطع: “ينقصني إيمان كاليأس”، في تعبير يبدو دقيقاً لجوهر المجموعة برمتها.

يكتب جازو من مساحة اللايقين، ومن رغبة غريزية في البقاء، حتى حين لا يكون هناك ما يستحق البقاء من أجله. وقصصه لا تبحث عن حل، إنّما تسرد الحيرة. وهي بهذا تنفتح على عوالم مختلفة، حيث لا البطولة ولا المقاومة ولا الحبّ الرومانسيّ، لكن فقط الإنسان  في حالته الخامّ، تحت ثقل العزلة واللاجدوى.

يشار إلى أنّ المجموعة جاءت في ٩٨ صفحة من القطع الوسط، ولوحة الغلاف للفنان عمران شيخموس، وتصميم الغلاف للفنان جونا ليونارد.

 

عن المؤلّف:

علي جازو: شاعرٌ كرديٌّ سوريٌّ من مواليد عامودا 1975. درس الحقوق في جامعة دمشق، وعمل كاتباً ومحرّراً في الصحافة الثقافيّة والنقد الفنّيّ في سوريا ولبنان. صدرت له عدّة مجموعاتٍ شعريّةٍ، منها «الغروب الكبير» العام 2004، و«ابتهالات» العام 2018. إضافةً إلى مجموعة “قصص بحجم حبّة كرز” العام 2024. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كان مخيم ( برده ره ش ) يرقد بين جبلين صامتين كحارسين منسيّين: أحدهما من الشمال الشرقي، يختزن صدى الرياح الباردة، والآخر من الغرب، رمليّ جاف، كأنّه جدار يفصلنا عن الموصل، عن وطنٍ تركناه يتكسّر خلفنا… قطعةً تلو أخرى.

يقع المخيم على بُعد سبعين كيلومتراً من دهوك، وثلاثين من الموصل، غير أن المسافة الفعلية بيننا…

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…

مازن عرفة

منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، يتسارع الزمن في حياتنا بطريقة مذهلة لا نستطيع التقاطها، ومثله تغير أنماط الحياة الاجتماعية والإنسانية، والاكتشافات المتلاحقة في العلوم والتقنيات، فيما تغدو حيواتنا أكثر فأكثر لحظات عابرة في مسيرة «الوجود»، لا ندرك فيها لا البدايات ولا النهايات، بل والوجود نفسه يبدو كل يوم أكثر إلغازاً وإبهاماً، على الرغم من…

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…