صوت المثقّف في مواجهة دوّامة التفاهة والانقياد

 بوتان زيباري

 

في هذا الزمن الذي يفتقد فيه الناس إلى منابر حقيقية للفكر المستقل، نجد أن المجتمعات التي تتجاهل مثقّفيها تسقط تدريجيًا في شَبر التفاهة الفكرية والانقياد غير الواعي. فحين يغيب صوت النقد، تتحوّل الأصوات إلى تراتيل ترديد آليّة مُسلَّمة، تُروّج بها السلطة والسوق، كذلك يُسيّس القول العام ليصبح جلادًا لمضامين العمق. المثقف، بطبيعته، لا يُسلَّم لريح الوقت ولا لتقلبات السلطة والشهرة؛ بل هو الصوت النقدي الذي لا يُسوّق له، ولا يطبع حسب الطلب، بل يُعلن صراحة: «أنا لا أُخضع فكري للسلطة، ولا ألتزم بقوالب الجاهز والمُسلَّم».

هذا الصوت الحرّ، كما نقرأ عند إدوارد سعيد في محاضراته عام 1993، واجه الاستسلام والتسويف، ورفض أن يكون جزءًا من «السوق السلطاني»، بل أصر أن يكون صُنعته الفكر المستقل، وأن يُخاطب الواقع عن طريقه، لا عن طريق نفوذ السلطة أو ضجيج الرأي العام . فهو يرى أن المثقّف الحقّ هو ذلك الذي لا يملّ طرح الفكرة حتى وإن لم تلقَ استحسان الحاكم أو الجمهور.

والأعجب من ذلك أن بعض الكتب المهمّة، رغم عدم حصول أصحابها على جوائز أدبية أو أكاديمية، مع ذلك قد أثارت نقاشًا محمومًا في الأوساط الثقافية. فالتقدير الحقيقي لا يكون بالجوائز، بل بتأثير الكتاب على العقل الجمعي. وقد يكون ذلك محقّقًا في حال ضحّى الكاتب بجذب المنظمات الكبيرة أو ترك العمل الشكلي ليقدّم فكراً لا يزاهم به السوق أو السلطة، بل يكشف الحقيقة الفعلية للمجتمع بتفاصيلها الدامية والخافتة أيضًا، دون تلوين أو تلين.

وتمامًا كما يشدد سعيد، فإن المثقّف لا يمكن أن يكون أداة تابع، وهو مَن يمتلك القدرة على التعرّض لسلطات مزدوجة؛ سلطة الأفكار المتوحّدة، وسلطة المال والنفوذ. عليه أن يقف في مشرحة الفكر، ويقول الحق بغض النظر عن انعكاسات الأمر عليه، فمهمته هي فضح الزيف والعبث، لا تلميع الواقع والتلطيف عليه.

إن تراجع المثقّف عن الحياة العامة تحويله إلى «خبير» يصدّر سياسات المؤسسات، بدلاً من أن يكون العقل النبيل الذي يواجه التصدعات في صلب المجتمع. فحين يخضع المثقف لضغوط المؤسسات، ينزلق دوره من صوت منارة مستنيرة، إلى صوت يُستخدم فقط لإضفاء المشروعية على قرارات السلطة. والمجتمع الذي يفتقد المثقف النقدي المستقل يشرّد فكره في اتجاه واحد، ويصبح عاجزًا عن التفكير الذاتي والحقيقة الجذرية.

لكن الأمل يوجد حين يدرك الناس أن الاعتراف بالجوائز لا يعكس قيمة الفكر. إنما التأثير الحقيقي ينبثق من النقاش المشتعل الذي يلطّخ صحف الفكر ومجلاته. هذه المناقشات هي التي تبني أسس النهضة الحقيقية؛ لأنها تنزع عن المثقف عباءة الخادم وتعلّمه الاستقلال، وتعلّمه أن دوره ليس في تزيين الواقع، بل في تمزيق الأقنعة عنه، وإعادة بنائه من جديد بالعدل والصدق والجرأة.

تمرّ مجتمعات بأزمات كبيرة حين يستبد صوت التطبيل بصوت الحقيقة، وحين يصبح الرأي العام صدىً لآلة متسلطة. المثقف الحقّ لا يبيع ضميره، ولا يهرول وراء الريح لحساب السلطة أو السوق. تبقى مهمّته أن يطرح السؤال المحرِّض، وأن يقف عند مأزق الإنسان في اللحظة، وأن يجعل قراءه يعيدون التفكير في الواقع، لا أن يبقوا متلقين ساكنين.

في نهاية المطاف، لا تحتاج المجتمعات جوائز تشجيع للكتاب النقديين؛ بل تحتاج أن تستمع لهم، أن تحميهم، وتُعطِي صوتهم مساحات حقيقية في الحياة العامة. فهذا هو الطريق الوحيد للخروج من دوامة التفاهة الفكرية والانقياد. فالمثقف، عندما تركن كلمته إلى السكون، يموت المجتمع، وتُزهر سطوحة السياسة والسوق شجر الخزعبلات على أرضه.

ولكي لا نفقد الصوت الأصيل، فإن واجبنا الجماعي هو أن نُنتج ثقافة تُثمن فكر الكتاب والباحثين الذين يقفون في وجه السطحية، لا أن نطبع الجميع بطابعٍ واحد: عظّمي السلطة، يبرع السوق، وأقيد الفكر بلا حرية. الفكر حين يُحجز عن الكلمة الحرة، ينطفئ، ويخمد فجر المجتمعات.

السويد

07.06.2025

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…