ومضات .. في ظلال ذاكرة متصدّعة

عبد الجابر حبيب

 

“حفَروا قبري بين شقوق الذاكرة، ثم أهدوني حرّيتي… مغلفة بوهمِ اسمه وطن”

 

 

عُصفورٌ على هيئةِ دُخانٍ،

ما زال يُغرِّدُ في جُمجُمتي.

لا يُلامُ ما دُمتُ:

أنا مَن فتحتُ لهُ ثُغرةً أكبرَ من حَجمه،

أنا مَن أطعمتهُ فُتاتَ أفكاري.

نَعَم، كنتُ طِفلاً مُشاكِساً،

نَصَبتُ عَشَراتِ الفِخاخِ على أطرافِ البَيدر،

كم كُنتُ أفرَحُ،

كلّما هَوَى عُصفورٌ في قَبضَتي.

 

لم يُصفّق لي أحد.

بينما كان الصَّمتُ وحدَهُ يُحدِّقُ بي

من مرآتِهِ المُتكسِّرة،

حتّى إنَّهُ ارتدى ملامحي

وصار يجلِدُني بألفِ سوطٍ،

كلّما أقنَعتُ نفسي

بأنَّ يَدي كانت أنظفَ

من هذهِ اليَد…

قبلَ أن تتعلَّمَ الخطيئة.

 

 

 

 

في جَوفِ الساعة،

كانت العَقاربُ تتقيَّأُ دماءَ الوقت،

كأنَّها تُرمِّمُ أجزائي المنسيَّة،

في الزَّمنِ الهارب،

كنتُ ألهَثُ خَلفَهُ بثوبٍ مُموَّهٍ،

كي لا تراني عُيونُ العَسَس

القادِمين من كُهوفِ التاريخِ

بأنفاسِهم المُتعفِّنة،

وأسئلتِهم التي تفوحُ منها الحُروب.

 

لم يَسمَعني أحدٌ

حينَ تَشَظّى وَجَعي بصَمتٍ،

لم يَرَ هذا التَّشققَ الهادئَ

في قلبي،

ولم يَدرِ أحدٌ

كم مرّةً

مِتُّ

دونَ أن أنزف.

 

 

 

 

قالوا عنّي:

حينَ كُنتُ طِفلاً،

مخلوقٌ لا يُشبِهُ أحداً،

يَحمِلُ رأسَهُ كحَقيبةِ سفرٍ،

ويُفتِّشُ عن أُمّهِ

في دُرجٍ صَدِئٍ من ذاكرةِ الحُروب.

 

وحينَ كَبِرتُ،

اكتشفتُ ألفَ دليلٍ

أنَّني سجينٌ بلا قيد،

أمشي حافياً فوقَ خرائطَ

لا تَعتَرِفُ بخُطواتي،

ولا أحد…

يَعرِفُ شَكلَ قَدَمي.

 

 

 

 

أنفاسي مَصْلوبةٌ،

تَسعُلُ كشيخٍ خَذلَهُ الهواء،

تَئِنُّ على جدارٍ بلا ذاكرة،

وصدى الغياب

يَخنقُ ما تبقّى من ظِلالي.

لِذلك،

ما زِلتُ أُنقِّبُ في زَوايا البَرد

عن ذِكرياتٍ تَصَلَّبَت

من فَحيحِ ريحِ الشَّمال…

 

 

 

 

البَارحة، رأيتُ في منامي:

سُلَّماً من عِظامِ الغَرْقى

يَصعَدُ نحوَ سماءٍ رَخوةٍ.

 

كان في بكاءِ الملائكةِ

ارتِعاشةٌ جَريحةٌ،

على الّذين نَسُوا مَلامحَ موتي،

أمّا النُّورُ الذي لم أفرَحْ بهِ يوماً،

فقد انطفَأ في مَحرسِ الحارِسِ الأخير،

رغمَ أنَّ في جُعبتهِ

ألفُ أُمنيةٍ…

ورَصاصةٌ يَتيمة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نداء يونس| فلسطين

 

أملي في التراب،

ما نفع الذهب المُقوّى

خارجٌ لأنه لا يُهادن هذا الذي أفكّر فيه

ليس لديه أسنان ليجعلها أدوات للصداقة.

من ديوان “بعضه سيَدُوم كالبلدان”- علي البزَاز (كاتب وفنان تشكيلي عراقي مقيم في هولندا)

يشكّل كتاب “كالزحف، كالنذير المبين- كتاب العازب” لعلي البزَاز الصادر عن دار المأمون، ط2، 2023، أرضية خصبة لتأملات متعددة حول الفردية التي تقع…

إبراهيم محمود

 

ما يبقى من الكتابة، ما يبقى من الفن،وما يبقى من الشّعر خصوصاً، حين يكون الأمس مغذّيه، ويوقَّع عليه حاضراً، وينظَر في أمره غداً وأبعد، حتى وإن جرى اعتبار الغد الشاغل المحوري للمسطور، لأنه من حيث المحتوى يستحيل النظر فيه، وتبيّن محرّكه الثقافي دون وضْع الأمس وقبله في الحسبان.

ولا أعتقد أن كاتباً أو فناناً، حين…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

إنَّ العُزلة لَيْسَتْ شُعورًا نَفْسِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا فِكْرَة حَيَاتِيَّة تَمْزُجُ بَيْنَ التأمُّلِ الوُجوديِّ وَرُوحِ الاكتشافِ ، مِنْ أجْلِ الوُصولِ إلى اليَقِينِ على الصَّعِيدَيْن المَعنويِّ والمَاديِّ . والعُزلةُ هِيَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ في إفرازاتِ الذاكرةِ، وَمِحْوَرُ الارتكازِ في الأسئلةِ الفَلسفيَّةِ العَميقةِ، وَفَلسفةُ التَّحَرُّرِ مِنْ حَيِّزِ المَكَانِ وَضَغْطِ الزَّمَانِ….

إدريس سالم

 

«الغابة السوداء»:

بداية لا بدّ أن نوضّح حقيقة مهمّة لكلّ قارئ، لأدب الروائي السوري، مازن عرفة. فمازن عرفة لا يكتب الرواية السياسية، ولا يكتب الرواية الشعبية أو الثورية، هو لا يكتب الرواية النفسية أو الفلسفية، ولا حتى الرواية التاريخية والوطنية، بل يكتب الرواية الإنسانية، هو يكتب رواية الإنسان، يكتب الإنسان؛ وعن الإنسان. يحاول بأسلوبه –…