مروة بريم
نهارات الشّتاء قصيرة، تكاد تتساوى حصتها الزمنية في البقاء، مع وميض النجوم البعيدة، حينما كانت تشرخ زجاجَ أعيننا بإحصائها ونحن صغار، ثم تغافلنا بالخفوت، وتختفي.
حينها كان الوقتُ فَيوضًا كافيًا لفعل كل شيء، لكنّه الآن أضيق من أن يحتمل صغائر بوحنا، يشيح بوجهه ويمضي في تدفق عجول كنهرٍ يدفعه الشّوق للوادي، وتتزاحم احتياجاتنا فوق رفوف التّأجيل.
في طريق العودة من زيارة أمي، بقيتُ أدير هذا الحديث مع نفسي، حتى نبّهني صوت إغلاق الصّندوق الخلفي للسّيارة، وتجاوزت الحاجز الأمني بسلام.
وعدتُ أحاور نفسي، ربما أجدُ سببًا مقنعًا لتقزيم الوقت، لا بُد أنّ الصّينيين هم السبب، هؤلاء المنفلتون من حواضن ماو المنيعة، لم يسلم شيء من عبثهم، مازالت وسائل الإعلام تتناقل، نبأ تدشينهم لأضخم سد في العالم، وأنه أحدث خللاً في دوران الكرة الأرضية وأبطأها، لكنّه لا يتجاوز جُزيئًا من الثّانية، لماذا ينبغي أن أعلّق أسمال وقتي الممزق القزم على مشجب الصينيين، سيأتي يومٌ تفغر فيه أفواهنا وتتوقف عن الثرثرة الفارغة، إنهم ينقلون الشّمس لتعتلي صباحاتنا من أكتاف الجنوب، وتقضي ليلها في سرير الشّمال، وأنا سأبقى أرتق الوقت من هنا فيتمزق من الجهة الأخرى، أهرّبُ أحزاني وأتنقل بين الحواجز الأمنية، يدٌ على هويتي وأخرى على قلبي.
وقعت عيني على رجل محظوظ، يجلس بطمأنينة تحت تندة مستديرة كأنه يستجمّ في إحدى شواطئ سيشيل، كلّما فتح فمه خرجت منه برتقالة، حسدته على بيع تلك الشّموس الصّغيرة في المواقيت الرّمادية لأربعينيات الشتاء. لكمتني في أنفي رائحة النسكافيه، المنبعثة من الكشك المنتصب في نهاية رصيف معمل النّسيج، أخرجتُ من حقيبتي بضع أوراق نقدية بنفسجية اللون، أفصح السّائق عن طمعه بورقة زرقاء، من فئة الخمسمائة متعلّلاً بغلاء البنزين:
– معك حق أخي، الإنسان هو الأرخص في دوامة الغلاء هذه.
– خيتو مانك شايفة الطّريق طويل.
– بلى بلى، معك حق، طويل جدًا كشقائنا، بحيث إذا وقفت عند المستوصف اليوناني في نهاية هضبة الاشرفية، بتقدر تعد كم بلكونة مدمرة، في صف البنايات على تل الشّيخ مقصود الشّرقي.
ترجّلتُ من السّيارة، وصفقتُ بابها بشيء من الغضب، الكل لديه ملفات لإعادة إعمار خرائب الإسمنت، فمن يكترث لإعادة إعمار هذا الإنسان المهدوم، الذي بات يجد أُنسه الضّال في وشوشة الأوراق النّقدية؟
بدا مالكُ متجر الأدوات المنزلية، أكثر بهجةً وبشاشةً من السّائق، وهو يستعرض أمامي فناجيل القهوة، التّباسي المحتضنة سربًا من بجعات يو تشانغ البرّية. توقّف عند ركن الشّماعد، تغيّرت ملامحه ونبرة صوته من بائعٍ إلى واعظ، وراح يمتدح كآبة البرونز في شمعدان متعدد الأصابع، كأنه راهبٌ في معبد بوذيٍ منبوذٍ في أعالي جبال منشوريا.
– جاري العزيز، أريد ركوة قهوة فقط.
مكرها رحّب بالفكرة، بعد أن فشل على حملي، لاقتناء تحفة صينية قد تثير حفيظة محفظتي.
قبل ولوجي إلى مدخل البناء، استطاعت شجرة السّبحبح بعريها الأنيق وعناقيدها الذهبية الشاحبة، أن تخفّف اضطرابي بعض الشّيء، عليّ أن أفعل شيئًا آخر لأهدأ تماما، أدرتُ المفتاح في غمده الحديدي بتؤدة، بدا صوت احتكاكه بالصدأ، كشخير جدتي الملتف بفراء القصص، بعد أن سخّنت ليلة قارسة بصوتها المبحوح.
دلفتُ المطبخ وفي وجهي ابتسامة رضا، حركتُ ممسك الصّنبور الأحمر، أستجدي بعض الماء، فقد ترعرعت مع مرايا الجليد في جبل الكرد، ولا أستطيع المضي قدمًا دون لمسة ماء، نلتُ حاجتي وأغلقت الصّنبورَ، سمعت طرقة ناعمة على الباب، كان الفتى ابن أحد الجيران، ناولني كيسًا أسود:
– نسيتِ الرّكوة تحت خالة.
أغلقت الباب وأنا أردد: الصينيون هم السّبب بُنيَّ.
لا قِبَلَ لي بتناول عشاء هذه الليلة، قبل الشّروع بفتح اللابتوب، سأُعدُّ لنفسي كوبًا من القهوة، وفي الرّكوة الجديدة، ربما أعثر في دكنتها على غيمة محتقنة كقلبي ونثرثر معًا عن الوقت الآبق، وأراقبُ خيال رأسي المنعكس على الحائط، بفضل سرب المصابيح المضاءة بالطّاقة الشّمسية، من أمام مول الأشرفية.
فشريط الليزر شحيح الضوء، وليالي الشتاء كمتاهات الجبل متعبة وطويلة.
=====
*يو تشانغ: روائية صينية