إبراهيم البليهي
إن هذا المبتكر الأعجوبة؛ مذهلٌ في تنوع كفاياته؛ فيجب أن يتعرف عليه الطلاب من المرحلة المتوسطة وحتى مرحلة الدكتوراه. إن ريتشارد باكمنستر فولر قد اكتفى من التعليم النظامي بالمرحلة الثانوية؛ أي أنه توقف عن الانتظام في التعليم النظامي بمجرد أن بلغ السن الذي يعامل فيه بوصفه قد بلغ الرشد وصار قراره بيده وليس بيد الأسرة ولكنه بهذا التوقف لم يكن يبحث عن الفراغ أو عن الراحة بل لأنه شعر أنه بانفراده بنفسه وامتلاكه لوقته وتصرّفه بطاقته؛ سوف يكون أقدر على التفكير الحر والتعلُّم المفتوح والانطلاق في الإبداع. وقد حقق آماله بذاته؛ فأبدع فوضعته الجامعات ضمن برامج الدراسات العليا ووجد فيه الدارسون معينا لا ينضب فرغم جِدَّة وصعوبة وفرادة أفكاره فإن بعض الدارسين جابهوا التحدي؛ فنال فريدريك فيديريكو نيد درجة الدكتوراه من كلية العمارة في جامعة جنيف. كما نالت يون تشي وونغ درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أمريكا. كما نال جوش بانغ درجة الماجستير من جامعة كالفورنيا بأمريكا.
لقد رأى أن مواصلة التعليم النظامي المقيَّد كطالب مع مجموعة طلاب آخرين؛ تعوقه عن إنجاز مشروعاته التي تشغل تفكيره؛ فهو ينطلق من رؤية فلسفية ويملك قدرات متنوعة وكفايات غير عادية؛ فأبدع في مجالات شديدة التباين، والدقة، والتنوع، والاتساع وبالغة الضخامة كان مبتكرًا بشكلٍ فائق؛ لقد بهر العالم بأفكاره الجديدة المذهلة إنه ليس فردًا بقدرة محدَّدة في مجال واحد كالهندسة المعمارية أو الهندسة الإنشائية وإنما هو مجموعة قدرات خارقة.
إن فولر لم يتوقف عن مواصلة التعليم النظامي ويكتفي بالمرحلة الثانوية إلا لأنه واثق أنه يملك قدرات استثنائية إنه ينطلق من رؤية فلسفية في تصاميمه وهو يقدم تصوُّرات لكل الاحتمالات؛ ويجيب على كل الأسئلة ويقدم الحلول لكل الإشكالات. لقد أتاحت تصاميمه المرونة والمتانة والسرعة والفاعلية والإيجابية لقد كانت أفكاره وسيلة ناجعة من وسائل التمكين الباهرة لأنها تتيح الإمكان لإنشاءات واسعة وسريعة وعالية ومن دون أعمدة في الوسط مهما اتسعت المساحة. وتتحمل الرياح والعوامل الجوية كما أن تصاميمه أسعفت بإمكانية توفير الإنشاء السريع لأي معرض وحين ينتهي المعرض يتم طي المواد لتعود الأرض فراغًا وبهذه التصاميم أقيمت المساكن المؤقتة، والقواعد العسكرية، ومعسكرات اللاجئين وكل ما يتطلب الجاهزية والمرونة والوفرة في المساحة.
إن بزوغ مثل هذا العقل الفردي الخارق يستفز التأمل العميق في الوضع الإنساني؛ إن العقل البشري مُربكٌ في غبائه وعُقمه وكلاله وتحجُّره عند العموم، ولكنه مذهلٌ في ثرائه وسخائه وتفتُّحه وتدفُّق إبداعاته عند الأقلية المبدعة، فكأن الأقلية الاستثنائية تختلف نوعيًّا عن عموم الناس، فبهذه الأقلية الاستثنائية نشأت العلوم والاختراعات وازدهرت الحضارة. إن أول ما يجب أن تتعلمه الأجيال هو التعرف على الأفراد الخارقين الذين صنعوا المجد الإنساني فعددهم محدودٌ جدا وعلى الجميع أن يحفظوا أسماءهم. إن عددهم لا يتجاوز عدد ركاب قطار لذلك تشتد الحاجة إلى أن يُعرَف هؤلاء الأفراد الخارقون الذين يكسرون المعتاد ويتجاوزون المألوف ويتحركون عكس التيار الجاري فبالخروج المتكرر عن الأنماط السائدة تقدمت العلوم والفنون وازدهرت الحضارة؛ فقد كان محالا أن تتقدم الحضارة لولا الكسر المتكرر للمعتاد ومجابهة السائد والتحرك عكس التيار؛ فالأصل في الإنسان أنه كائن مُتَّبِع وليس كائنًا مبدعًا؛ فكيف يمكن تحويل الإمكان إلى واقع؛ إن كل مولود يولد بقابليات فارغة قابلة لكل الاحتمالات ثم يتشكَّل عقله بما ينشأ عليه؛ فالقابليات الإنسانية تُختطَف قبل بزوغ الوعي؛ وهذا ما سماه نتشه؛ العَود الأبدي.
ريتشارد باكمنستر فولر واحدٌ من القلة المبدعة، فحين أنهى المرحلة الثانوية رأى أنه من الضياع لعمره أن يبقى منتظمًا في التعليم النظامي بعد أن أحسَّ بالنضج، وأدرك أن التعليم لن يضيف إليه ما هو بحاجةٍ إليه فراح يبني ذاته بذاته حتى صار كتلةً من التخصصات في فرد واحد. إنه بمحض اهتمامه وذكائه وجهده صار يبدع في أي مجال يمنحه شيئًا من اهتمامه. إنه مبدعٌ عبقري فهو مخترعٌ ومهندس نُظُم وفيلسوف ومصمِّم معماري وشاعر وكاتب. ومن تجربته الذاتية توَصَّل إلى أن التعليم النظامي يغلق قابليات الدارسين، فالأطفال قبل المدرسة يكونون كثيري الأسئلة ولكنهم حين يخضعون للتأطير والتطويع التعليمي، تتجمَّد عقولهم فيتوقفون عن الأسئلة ويصيرون أجهزة استقبال رديئة وضعيفة. إن أعظم ثروة بشرية تتم مصادرتها في الطفولة.
ريتشارد فولر اخترع القبة الجيوديسية وهي هياكل هندسية خفيفة الوزن شديدة القوة، صارت بعد أن اخترعها تُستخدَم حين يراد تسقيف مساحات واسعة مثل المعارض والملاعب والبيوت البيئية وقد أصبحت رمزًا عالميا للهندسة المستدامة. وضَع مفهوم (سفينة الفضاء-الأرض) وهي نظرية فلسفية وعملية حول إدارة موارد الأرض بشكلٍ دولي جماعي. ابتكر نظام (داماكسيون) وهذا النظام يشمل: سيارة- بيت- خريطة- جميعها تستهدف أقصى كفاءة بأقل مورد. ألهم مصممين معماريين ومفكرين عالميين وكمثال على ذلك فإن “استيف جوبز” يعترف بأنه قد تأثر بأفكاره، وبأن الكثير من إلهاماته كانت بتأثير فولر. يؤمن بأن الأطفال من كل الأمم ومن جميع الشعوب يولدون بقابليات مفتوحة، ولكن التربية السيئة والتعليم النظامي يُفسد هذه القابليات ويصيبها بالعقم والكلال والتحجر. من أقواله: ((كل طفل يولد قابلا بأن يكون عبقريا لكن العملية التربوية تقتل العبقرية)) ويقول: ((مؤسسات التعليم في كل العالم مبرمَجة لتعليمك كيف تُفَكِّر مثل الآخرين لا أن تفكر بشكل فردي مستقل)) ويتابع القول: ((النظام التعليمي لا يُطلق طاقاتنا، بل يدربنا على الامتثال والطاعة، ويربينا على أن الأسئلة الخاطئة تستحق إجابات صحيحة)) ويواصل ليؤكد: ((أن النظام التعليمي يهدر سنوات من حياة الإنسان بتدريسه أشياء لا تنفع، بينما يقتل داخله القدرة على التجريب والاكتشاف))
ولأنه توقَّف عن مواصلة التعليم النظامي، فإنه يقول: ((تركت التعليم لأنه فشل في أن يستجيب لاحتياجاتي الذهنية والنفسية. لقد فشل في أن يراني)) ويقول كذلك: ((معظم ما تعلَّمته مما له قيمة كان خارج جدران المدرسة)) ويؤكد أن التعلُّم لا يحصل بإعطاء الدارسين معلومات بل بتقديم نموذج حي فيقول: ((أنت لا تغير الأشياء بمحاربة الواقع القائم فمن أجل أن تغير شيئًا عليك أن تبني نموذجًا يكشف للدارسين عدم صلاحية النموذج القديم)) ويرى أن الإنسان لا ينجز إنجازًا نافعا إلا إذا كان مندفعا إليه بذاته، حيث يقول: ((لا تنتظر أحدا ليمنحك القدرة بل افعل ما تؤمن به)) ويقول: ((يجب التعامل مع الإنسان بوصفه حَلًّا وليس بوصفه مشكلة، لكن التربية العمياء حوَّلته من كونه حَلًّا ليصير مشكلة)) ويقول: ((أعظم مورد بشري غير مستثمر عند كل الأمم هو ذكاء الإنسان، فالتعليم لا يستثمر الذكاء بل يُدَجِّنه ويخيفه من المبادرة واحتمالات الخطأ)) إنه يرى أن ((التعليم يخلق نسخةً موحَّدة من الدارسين بدلا من تشجيع التفرد والاختلاف، إن الطفولة هي كنز العبقرية الموءودة)).
إن هذا العبقري الذي اكتفى من التعليم النظامي بالمرحلة الثانوية وهاجم التعليم بكل حِدَّة وضراوة، تسابقت الجامعات لتمنحه شهادات الدكتوراه الفخرية وتحتفل به احتفالا مشهودا:
– مُنح (25) شهادة دكتوراه فخرية
– مُنِح وسام الاستحقاق الأمريكي
– نال عشرات الأوسمة العالمية في الهندسة والابتكار
وهكذا نكون أمام شخص لم يتلق أي تعليم في الهندسة والتصميم، يبدع إبداعات فائقة عالمية استحق عليها الاعتراف العالمي والتكريم والأوسمة.
وبهذا يظهر أنه من التغفيل انتظار الابداع من الذين واصلوا التعلُّم كُرْهًا واضطرارًا، بينما أن تاريخ العلوم والفنون والتكنولوجيا، كلها تثبت، بما لا يدع أي مجال للشك، بأن الإبداع مشروطٌ بالموهبة والرغبة والشغف والاندفاع التلقائي للتعلم والعمل، فالإنسان كائنٌ تلقائي ولابد من احترام طبيعته ليكون النتاج زاخرًا بما هو إيجابي.