ربع ساعة في القبر

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي، وتوجهتُ بخطوات سريعة نحو موقف التاكسيات. لا وقت للارتباك، فاليوم مخصص للتعامل مع أحد أكثر الأجهزة الطبية غموضًا.

ركبتُ السرفيس. لم أكد أضبط أنفاسي حتى لمحته… رجل أعرفه، جالس في المقعد الأمامي، يبتسم بتلك الابتسامة المريبة التي لا تأتي إلا من أشخاص إما يعرفون سرًا عنك… أو يظنون أنهم يعرفونه.

سلّمتُ عليه على مضض، سلامًا سريعًا مثل طلقة تحذيرية، ثم قلت للسائق بهدوء مدروس:

– نزلني على أول الشارع، إذا بتريد.

نزلتُ قبل أن تسبقني شكوكي، وسلكتُ الطريق المؤدي إلى المركز الطبي الذي أعرفه جيدًا – أو أظن أنني أعرفه. عند الباب، استقبلني الحارس بوجه خالٍ من أي ملامح، وسألني كما لو كان يسأل عن تصريح أمني:

– معك سلاح أو موبايل..؟.

– معي موبايل فقط، لا سلاح.

ابتسم ابتسامة بلا ود، وقال:

– الموبايل برا. جوّا بس بيدخل الخوف.

سلّمته الهاتف، وتقدّمت.

الحرّ خانق، والعرق يغلي كأنه يفضح خوفي المخبأ. دخلتُ المركز… كل شيء نظيف أكثر من اللازم. تعقيم، ترتيب مبالغ فيه، كأن المكان يستعد لعملية إعدام سرّية.

على الرف، نعالٌ بلاستيكية مصطفة كأنها جنود خرجوا لتوّهم من هزيمة.

استقبلتني الموظفة بابتسامة إدارية محفوظة، وسألت عن اسمي، ثم أشارت بيد باردة نحو غرفة الانتظار. جلست هناك، أراقب بصمت وجوهًا لا حياة فيها. حتى الماء الذي شربته لم يطفئ عطشي بقدر ما زاد إحساسي بالغرق.

فجأة نادوني:

– خال… تفضل.

دخلتُ غرفة جانبية. الممرضة – شابة ذات صوت ناعم وحركة صارمة – قالت:

– خال، بدّل تيابك. لازم تلبس ثوب الرنين.

ارتديتُ ذاك اللباس الأخضر الموحد، الذي لا يُفرّق بين مريضٍ وطبيب… أو حتى ضحية.

– مازحتها: ممكن آخد سيلفي قبل ما أفوت..؟.

ضحكت وقالت:

– هون لا في موبايل… ولا في حظ.

دخلتُ الغرفة. الربط، التثبيت، الأضواء تنطفئ، الباب يُغلق… وبدأت مراسم الدفن الرمزي.

الظلام يحيط بي، وصوت الجهاز يضرب رأسي كأن أحدهم يطرق نعشي بمطرقة. كل ما بداخلي بدأ يتهامس:

ماذا لو كانت مؤامرة..؟.

ماذا لو أن الرجل في السرفيس كان يراقبني..؟.

ماذا لو أنني الآن داخل جهاز لا يُصوّر عمودي الفقري بل يقرأ ملفي الأمني..؟.

بدأتُ أختنق. تنفّسي ثقيل كأنني في أحد كهوف كوردستان. رأيت ظلّين يتحركان خلف الزجاج… أحدهما يتظاهر بتصفح شيء… ربما يراقب نبض قلبي..!.

تخيلت العنوان في الأخبار:

“معارض سابق يفارق الحياة داخل جهاز طبي… نوبة قلبية أم رسالة؟”

لا أحد يعلم أنني هنا. حتى زوجتي لا تدري. خرجتُ دون وداع، كمن خرج ولم يعد.

ثم…

نور أبيض… وصوت نسائي مألوف:

– خال! خلّصنا. يلا، فيك تلبس وترجع تاخد التقرير.

جلستُ فجأة، نصف مصدوم، نصف مرتاح. نظرتُ إليها وقلت بابتسامة خائفة:

– الله يجازيكم… دفنتوني حي أكتر من ربع ساعة!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.
رفوف كتب
وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير في…

حاورها: إدريس سالم

 

في زمن الانهيارات الكبرى والتحولات الجذرية، لم يعد ممكناً التعامل مع القضايا المصيرية بمنطق الإنكار أو الاستخفاف؛ فالمشهد السياسي السوري، بكل تعقيداته وتناقضاته، بات يفرض على الفاعلين الكورد مسؤولية مضاعفة في إعادة تعريف أدوارهم، وترتيب أولوياتهم، وبناء مشروع وطني يتجاوز الاصطفافات الضيقة والانقسامات القاتلة، فالسكوت لم يعد ترفاً، ولا الشعارات تُقنع جمهوراً أنهكته…

فراس حج محمد| فلسطين

مقدمة:

أعددتُ هذه المادّة بتقنية الذكاء الاصطناعي (Gemini) ليعيد قراءة الكتاب، هذا الكتاب الشامل لكل النواحي اللغوية التي أفكّر فيها، ولأرى أفكار الكتاب كما تعبّر عنه الخوارزميات الحاسوبية، وكيف تقرأ تلك الأفكار بشكل مستقل، حيث لا عاطفة تربطها بالمؤلف ولا باللغة العربية، فهي أداة تحليل ونقد محايدة، وباردة نسبياً.

إن ما دفعني لهذه الخطوة…

غالب حداد

1. مقدمة: استكشاف “العالم الجميل الموجود”

تُقدّم مجموعة القاص والشاعر الكردي السوري عبد الرحمن عفيف، “جمال العالم الموجود”، نفسها كعمل أدبي ذي كثافة شعرية فريدة، يرسم ملامح مجتمع مهمش، ويحول تفاصيل حياته اليومية إلى مادة للتأمل الفني والوجودي. ويأتي تحليل هذه المجموعة، التي تمثل تطورا لافتا في مشروع عفيف الأدبي الذي تجلت ملامحه…