بالشغف التعلُّم من دون معلم

إبراهيم البليهي

 

‎إن  النجاحات العملية الخارقة؛ هي التي أيقظت العلم وليس العكس؛ فماذا يعني أن يكون أكبر تحوُّل حضاري في العصر الحديث؛ قد تَحقَّق خارج نطاق التعليم؛ فهل نتذكر أن اختراع المطبعة هو أعظم الإنجازات وقد حققه حدَّادٌ وليس عالمًا، وهل نتذكر الاختراق المزلزل الذي حققه كولومبس. أما التحول الأعظم والأكثر دلالة؛ فهو الثورة الصناعية التي تمثل الحدث المفصلي الحاسم بين عصرين؛ إن هذه الثورة العظمى؛ قد أشعلها وأدارها وقادها وأنجزها؛ اثنان من خارج دائرة التعليم هما: رتشارد آركرايت، وجيمس وات؛ وهما بنجاحاتهما الخارقة؛ أيقظا الجامعات والمجتمع؛ للتحول النوعي الذي يجب إدخاله على نظرتنا للتعليم. أما قبل ذلك فلم يكن التعليم يهتم بالنواحي العملية. إن النجاح المزلزل للثورة الصناعية هو الذي غيَّر مسار التعليم وليس العكس إن هذه الحقيقة ذات دلالات مفصلية عميقة لابد من تكرار تأكيدها، وتكرار الحديث عنها، وعدم السماح بأن تغيب عن الأذهان؛ فالبشر ينسون بسرعة، فتغيب عنهم أشد الحقائق أهمية وأكبرها تأثيرًا.     

‎وحتى بعد أن استيقظ التعليم النظامي واندفع بتخصصاته المختلفة ليكون مُرشِدًا للمجالات العملية؛ بقي الأفراد الخارقون؛ يأتون من خارج نطاق التعليم؛ إنهم الذين يُحدثون التحولات الكبرى؛ فمايكل فرداي لم يتلق أي تعليم نظامي وقد حقق اختراقات عظيمة في العلم والاختراع إلى درجة أن فيلسوف العلم الشهير كارل بوبر يؤكد بأن الاختراقات العلمية التي أنجزها فرداي تمثل ثورة في مجال الفكر العلمي لا تقل عن ثورة كوبرنيكوس في علم الفلك. ومعلومٌ أن مايكل فرادي قد كوَّن ذاته بذاته فقد جاء من خارج مؤسسات التعليم النظامي.

‎وحتى في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين؛ ما يزال الأفراد الخارقون من خارج التخصصات التعليمية؛ هم الذين يحققون الاختراقات الكبرى، ويحدثون التحولات الحاسمة؛ وليس توماس إديسون وهنري فورد والأخوان رايت و، وزنياك وستيف جوبز وبيل جيتس ووالت ديزني سوى نماذج على الفاعلية الفردية الحاسمة، وكلهم قد جاءوا من خارج التخصصات التعليمية.؟!!!

‎ماذا يعني؛ أن يُحْرَم توماس إديسون حتى من التعليم الابتدائي ولكنه من دون أي تعليم يحقق أكثر من مائة اختراع، وينجز أعمالا إنشائية ومشروعات لم يُسبَق إلى مثلها، وينال جائزة نوبل في علم الفيزياء، ويَكتُب فيلسوفُ العلوم الفرنسي غاستون باشلار بأن توماس إديسون لم يكن فقط خارقًا في الاختراع؛ وإنما هو قد حقَّق اختراقات علمية عظيمة؛ لذلك تضعه الجامعات ضمن برامجها للدراسات العليا فتصدر عنه ثلاث (3) أطروحات دكتوراه؛ فردٌ قالت عنه المدرسة بأنه غير قادر على التعلُّم؛ تدار حول إنجازاته دراسات علمية عالية لكن من المؤسف أن الناس لا يتوقفون طويلا أمام مثل هذه الأحداث  المفصلية؛ لذلك لا يُستفاد من دلالاتها العظيمة؛ فماذا يعني كل هذا.؟!!! 

‎إن الإبداعات الفردية الخارقة بقيت هي الفاعل الأول المتجدد وعلى سبيل المثال؛ ماذا يعني أن يكتفي ريتشارد باكمنستر فولر من التعليم النظامي بالمرحلة الثانوية، وأن يبهر العالم بأفكاره وتصميماته ورؤاه، وأن تتسابق الجامعات للاحتفاء به ومنحه الدكتوراه الفخرية. حيث احتفل به (25) جامعة ونال (25) دكتوراه فخرية ورغم أن الجامعات المختلفة قد غمرته بالتكريم؛ فإنه يعلن بكل وضوح بأن على الفرد أن يعتمد على نفسه في التعلُّم فيقول: ((لا تنتظر أحدًا ليمنحك القدرة)) ليؤكد بأن: ((العملية التربوية تقتل العبقرية)) ويقول: ((الذكاء الإنساني هو أعظم مَورد بشري لكنه مورد غير مستثمَر؛ فالتعليم يدَجِّنه، ويخيفه من المبادرة، ومن تجريم الخطأ))  كما يعلن أن الإنسان يتعرض: ((لتربية عمياء))  كما يؤكد: ((أن النظام التعليمي يهدر سنوات من حياة الإنسان بتدريسه أشياء لا تنفع)) ويكرر التأكيد بأن النظام التعليمي: ((يقتل القدرة على التجريب والاكتشاف)) ويقول: ((النظام التعليمي لا يطلق طاقاتنا، بل يدربنا على الامتثال والطاعة)) ويؤكد بأن: ((مؤسسات التعليم في كل العالم مبرمَجة لتعليمك كيف تتماثل مع الآخرين لا أن تفكر بشكلٍ فرديٍّ مستقل)) ويؤكد بأن ((التعليم يخلق من الدارسين نسخة موحَّدة بدلا من تشجيع التفرد والاختلاف)) ويصرح بكل حسم: ((إن الطفولة هي كنز العبقرية الموءودة)) ولأنه بإبداعاته صار شخصية عالمية؛ فقد سئل لماذا تركت التعليم فأجاب: ((تركت التعليم لأنه فشل في أن يستجيب لاحتياجاتي الذهنية والنفسية؛ لقد أخفق التعليم في أن يراني)) كما ينبه إلى أن الإنسان لا يحتاج إلى من يقوده ليتعلم بل إنه يتعلم من دون معلم حين يكون شغوفًا بالتعلم فيقول: ((معظم ما تعلمته مما له قيمة تعلمته خارج جدران المدرسة))

‎مصداق ذلك أن المبدع الأمريكي وليم فوكنر قد اكتفى من التعليم النظامي بالمرحلة الثانوية؛ واعتمد على ذاته في تكوين ذاته فصار في طليعة المبدعين في العالم ونال جائزة نوبل في الأدب. وأصبح موضوعًا متجددًا للدراسات العليا في مختلف جامعات العالم؛ وخلال المدة القصيرة الماضية صدرت عنه عشر (10) أطروحات للدكتوراه.؟!!!      

‎إن نماذج التفرد تظهر في كل المجتمعات؛ فعباس محمود العقاد لم يتجاوز في التعليم النظامي المرحلة الابتدائية. وقد تمكَّن بمحض مواهبه واهتمامه التلقائي أن يبلغ الذروة وأن يكون موضوعًا لدراسات عليا متواصلة وأن يصدر عنه عدد من أطروحات الدكتوراه والماجستير من جامعات أوروبية وعربية. ولم يكن العقاد فريدًا في ذلك؛ فمصطفى صادق الرافعي قد اكتفى من التعليم النظامي بالشهادة الابتدائية؛ وقد أصبح أديبًا ولغويا، ومنافحًا قويًّا؛ تغطي شهرته كل الأوطان العربية، وتنشغل بإنتاجه الجامعات، ويجد الباحثون في الدراسات العليا في تراثه؛ موضوعات ثرية وزاخرة ومتنوعة للدراسة والتحليل، وأن تصدر عنه ثلاث (3) أطروحات للدكتوراه وأربع (4) رسائل للماجستير وما لم أعلمه ربما يكون أكثر؟!! وماذا يعني؛ أن ينال المبدع النرويجي كنوت هامسون؛ جائزة نوبل في الأدب، وأن يصبح موضوعًا متجددًّا للدراسات العليا في الجامعات في العالم، وأن تصدر عنه خلال المدة القصيرة الماضية؛ أربع (4) أطروحات للدكتوراه ومثلها ماجستير وهو لم يتجاوز في التعليم النظامي المرحلة الابتدائية؛ فالتعليم بكل مستوياته وفي جميع تخصصاته؛ يعتمد على ما ينتجه الأفراد المبدعون الخارقون الذين كوَّنوا أنفسهم بأنفسهم ونجوا من التأطير التعليمي ومن مساره الخطي.؟!! وماذا يعني أن يكتفي المبدع المكسيكي أوكتافيوباز من التعليم النظامي بالمرحلة الثانوية وأن يتمكن من الاعتماد على نفسه في تكوين ذاته وأن يصبح من عمالقة الفكر والإبداع في العالم وأن ينال جائزة نوبل في الأدب وأن يصبح موضوعًا للدراسات العليا في مختلف الجامعات في العالم وأن تصدر عنه خلال المدة القصيرة الماضية تسع (9) أطروحات دكتوراه.؟!!!

‎وماذا يعني أن تُشرق مواهب المبدعة الفرنسية جورج ساند من دون أي تعليم باستثناء بعض التعليم الديني الكاثوليكي الأوَّلي البسيط لكنها بمحض الموهبة والاهتمام تمكنت أن تبني ذاتها بذاتها وأن تصير في طليعة المبدعين العالميين وأن تصبح موضوعًا زاخرًا بأينع الثمار للدراسات العليا؛ حيث صدر عنها خلال المدة القصيرة الماضية أربع (4) أطروحات دكتوراه وخمس (5) رسائل ماجستير.؟!!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أحمد عبدالقادر محمود

 

الجبلُ يبقى شامخاً لو عبثت فيه الفئران

صلدٌ لا ينحني و إن غزتْ سفحه الغربان

لا يرتضي بالخنوع و إن رمته النائباتُ أذان

تبقى المهابة فيه لو دنت الجيْفُ والخصيان

يعلو ولا يستجيب لمنْ أتاهم ذلَّة إذعانُ

صخرٌ ولكن ينادي في المدى عزَّة و برهان

لا تنكسرْ عزّتهُ لو مزقوه قسوة و هوان

يصغي لصمت الرياح و في ثناياه الأسى…

تنكزار ماريني

يتكشف عنوان ”سيرة عابر ألغام“ من رواية حليم يوسف القوية مثل لوحة معقدة من المعاني والمشاعر التي تتجذر بعمق في سياقات شخصية وسياسية. يمكن تقسيم هذا العمل الأدبي إلى مفهومين مركزيين: ”السيرة الذاتية“ و”عابر الألغام“. ويدعو كلا الجانبين إلى تفسير متعدد الطبقات ويلقي الضوء على ازدواجية الحياة في ظل نظام القمع.

مستويات تحليل العنوان:

يستدعي عنوان…

عِصْمَتْ شَاهِين الدُّوسكي

 

قُلْتُ لَهَا :

خُذْي مِنَ الرُّوحِ شِغَّافَ الرُّوحِ

وَطَرِزْي وِشَّاحَ الشِّتَاءِ

وَغَطِّي الْجُرُوحَ

كُلُّ فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ الْحَيَاةِ

تَنْمُو فِيه سَنَابِلُ الْبَوْحِ

لَا .. كَفَى … تَغْتَالِي

سَنَابِلِي الْحُبْلَّى بِثِقْلِهَا الْمَجْرُوحِ

بِعِنَادِ خَرِيفٍ يَتَذَمَرُ

يَمْنَعُ الْمَطَرَ وَالنَّوْحَ

نَعَمْ ضُمِينِي لِكُلِّ فُصُولِكِ الْجَرِيئةِ

وَأَزَيحِي سِتَاَرَ الثَّلْجِ الْمَطْرُوحِ

قَدْ يُدَفِينا وَنُدَاوي شَوْقَ الرُّوحِ

***********

قَالَتْ :

آهٍ مِنْكَ وَمِنَ النَّوَى

أَسْمَعُ صَوْتَكَ ، قَلْبِي يَهْوِى

وَالرُّوحُ تَعْشَقُ حَتَّى لَوْ كَانَ أَعْمَى

لَا تَشْكُو…

“كنتُ قصيدةً تائهة” – للشاعرة شيرين دريعي

هناك نصوص لا تُقرأ… بل تُرتَجَف

وقصائد لا تُنشَد… بل تُبكى في القلب.

“كنتُ قصيدةً تائهة”… ديوانٌ نسجته أنثى من خيوط الغربة، وبقايا الحنين، ونبض القلب حين يخذله الحب، وتخذله الحياة.

هنا، لا تكتب الشاعرة الشعر، بل تكتب نفسها، بكل ما فيها من شروخ وهمسات، من خوف واشتهاء، ومن ضياعٍ جميل يبحث…