دراسة مقارَنة في مضامين الحكاية الشعبية الآسيوية – الحلقة الثانية

حيدر عمر

 

نماذج من حكايات شعوبٍ آسيوية  

1 .حكايات ذات نهايات سعيدة.

 

        يمكن اعتبار حكاية “علاءالدين والمصباح السحري” من حكايات  “ألف ليلة وليلة”، نموذجاً للحكايات التي تنتهي بنهايات سعيدة إذ نجد علاء الدين يصيب الغنى بمساعدة جنّي عملاق يخرج من مصباح قديم وجده في مغارة.

      كان لعلاء الدين عمٌّ جشعٌ، طلب منه دخول المغارة للبحث عمّا فيها من كنوز، وأعطاه خاتماً ليستعين به إذا ما حدث له مكره. بحث علاء الدين في أرجاء المغارة، فوجد مصباحاً قديماً، تراكم عليه الغبار. طلب العمُّ أن يعطيه المصباح، ولكنه رفض أن يعطيه إياه إلّا بعد أن يُخرجه من المغارة، مما جعل العمَّ يدعه وشأنه فيها ويعود أدراجه من حيث جاء.

     مسح علاء الدين الغبار عن المصباح، فظهر له في الحال جنّي، شكره لأنه أخرجه من محبسه، وجعل نفسه طوع أمره، يحقق له كل ما يريد.

     طلب علاء الدين من الجنّي أن يخرجه من المغارة، وأن يجمع له الكثير من المال والجواهر ليتسنى له الزواج من الفتاة التي يحبها، وهي ابنة ملك. فحقق الجنّي له رغبته، وبنى له قصراً كبيراً، فتزوّج بمحبوبته وأقاما في القصر الذي بناه له الجنّي.

     سمع عمّه الجشع ما آلت إليه أحوال علاء الدين، فتوقع أن يكون ذلك بفضل المصبح السحري، ولهذا تنكّر في هيئة بائع المصابيح الجديدة، يستبدلها بالقديمة، وقصد قصر علاء الدين في غيابه، وتمكّن من خداع زوجته التي لا تعرف شيئاً عن المصباح، وأخذه منها. وأمر الجنّي أن يحمل القصر بمن وما فيه إلى حيث يقيم.

     حين عاد علاء الدين، وتفاجأ بما حدث، تذكّر الخاتم الذي كان عمُّه أعطاه إياه، فمرر يده عليه، فظهر له جنّي، طلب منه علاء الدين أن يأخذه إلى حيث أخذ عمُّه قصره وزوجته. حقق له الجنّي ذلك، وهناك استغل غياب عمه، ودخل القصر بحثاً عن المصباح إلى أن وجده، وأخرج الجنّي الضخم منه، وأمره أن يعيد الأمور كما كانت. فحمل الجنّي القصر بمن وما فيه إلى مكانه السابق، وعاش علاء الدين وزوجته فيه حياة سعيدة.

     نسمع صدى هذه الحكاية في حكاية أوزبكية هي “المصباح الساحر([1]). تدور أحداثها حول فتى لأسرة فقيرة اسمه حسن، مات والده وهو في السنة الثالثة من عمره، فاعتنت به أمه، ولما بلغ الثامنة من العمر، صار يخرج ويتسكَّع مع أقرانه، ويحتالون على أهل القرية، يسرقون منهم ما يشاؤون من ثمار. ولم يكن هناك من يعنى بالأطفال ويرشدهم إلى الصواب. لأن هموم الحياة والحصول على قوت اليوم كان الشغل الشاغل لكبار أهل القرية. وكان في الوقت نفسه ثمة ساحر اسمه “مير هاميد” يعيش في وكْرٍ في أحد الأودية المجاورة، يمارس السحر الأسود دون علم أهل القرية.

     ظهر الساحر ذات يوم في القرية، فرأى الأطفال يلعبون ويمرحون، فنادى حسن وادَّعى أنه عمُّه “مير هاميد”، عرفه لأن ملامحه تشبه ملامح أخيه  “محمود” والد حسن، أو هكذا ادَّعى، كانا قد افترقا قبل فترة طويلة قبل أن يولد حسن، بقي أخوه هنا في القرية، ومضى هو في تجارة إلى بلاد “إيران”. وقد سمع مؤخّراً بموت أخيه محمود، فدفعه الشوق إلى قريته وزيارة قبر أخيه للترحُّم عليه، ثم أخرج قطعة نقدية فضية صغيرة من زنّار حول خصره، وأعطاه الصبيَّ، الذي فرح بها كثيراً، وأسرع إلى بيته، فأخبر أمه بما كان، واستأذنها لدعوته إلى بيتهما.

     ما أن دخل الساحر في البيت وأخذ مكانه حتى بادر إلى الحديث عما كان بينه وبين أخيه محمود من مودة ومحبة، وصار يبكي أثناء الحديث، حتى صارت أم حسن تشاطره البكاء. وبعد أن تناول بعض الحلوى وشرب الشاي، خرج وحسن معه إلى السوق، فاشترى له ملابس جديدة، ورجعا إلى البيت، حيث أقام عدة أيام، ثم طلب من الأم أن تسمح لابنها حسن ليرافقه إلى بلاد إيران. فوافقت الأم بعد إصراره وتردُّد منها.

     سار الساحر وحسن مسافة طويلة عبر السهول والصحارى والجبال، حتى شعر حسن بالتعب، فأراد أن يستريح قليلاً من عناء السفر. أخرج الساحر من إصبعه خاتماً وقدمه لحسن كي يضعه في إصبعه، سوف يعينه إن ألمّت به ضائقة ما. ثم قال له إنه سيقرأ الآن تعويذة تزلزل الأرض، فتنشق عن فالق، لا أستطيع دخوله، فعليك أن تدخل فيه تحت الأرض بدلاً مني. سترى بستاناً، تسير في جانب الأيمن إلى أن تجد أطلال بيت قديم، فلا تخف، بل ادخل، وابحث عن مصباح قديم، فإن وجدته، احمله بحذر ولا تمسح عنه الغبار. ثم أمسك بيد حسن وأنزله في الفالق.

     بعد أن هبط حسن إلى الفالق، وجد بستاناً جميلاً، كما وصفه الساحر، فيه الأزهار المختلفة الأنواع والألوان، تغرد فيه العصافير والبلابل، وتجري فيه المياه العذبة من قنوات عديدة، تتلألأ في قاعها الأحجار الكريمة. همَّ حسن أن يلتقط بعضها، لكنه تذكَّر كلام عمه، فامتنع عن ذلك، تابع حسن سيره بالجانب الأيمن للبستان، إلى رأى أطلال بيت متهدِّم، دخله دون خوف، وبحث عن المصباح في أرجائه حتى وجده، فتناوله بحذر، وعاد أدراجه، وفي أثناء رجوعه التقط بعض الأحجار الكريمة، ودسَّها في جيبه، وصار يصعد إلى الأعلى حتى اقترب من سطح الأرض، فنادى عمه كي يخرجه من الفالق. مدَّ الساحره يده وطلب منه أن يعطيه المصباح، فرفض حسن أن يعطيه إلا بعد أن يُخرجه من الفالق. ولكن الساحر لم يُخرجه، بل تركه في الفالق، ومضى في سبيله.

     تملَّك الصبيَّ الخوفُ، فصار يبحث عن مخرج، ويرمي تلك الأحجار الكريمة التي دسَّها في جبيبه، فلمست يده المصباح. عندئذ تذكَّر حرص عمه الساحر على ألَّا يمسح الغبار عنه، فراح يحدِّث نفسه: لماذا كان عمي حريصاً على ألَّا أمسح ما على المصباح من غبار؟ لذلك راح يبحث عن شيء يمسحه به، فوجد مِزقة بالية من القماش، وما أن مسح المصباح بها، حتى ظهر أمامه جنّي ضخم وطويل أصابه منه الخوف والفزع، فراح يصرخ ويستنجد، ولكن الجنّي هدّأ من روعه، وانحنى أمامه، مستعداً لتحقيق كل ما يريد.

     طلب حسن من الجنّي أن يعيده إلى قريته وبيته، فما كانت إلا بُرهة حتى وجد حسن نفسه في بيته بجانب أمه التي كانت تتضوَّر جوعاً. أمر حسن جنّي المصباح أن يُحضر لهما طعاماً، وما هي إلّا لحظة حتى امتلأ البيت بأشهى المأكولات وألذِها، فتناولها مع أمه.

     عاش حسن مع أمه بعد ذلك حياة سعيدة وقد تغيَّرت أحوالهما نحو الغِنى، ومضت بضع سنوات، اًصبح حسن خلالها شاباَ يافعاً، وأراد أن يتزوَّج، وطلب من أمه أن تذهب إلى الملك فتخطب له ابنته هلالة.

     ذهبت أمه إلى قصر الملك لتخطب ابنته، ولكن الملك استشاط غضباً وأراد أن يقتلها، إلّا أن وزيره زهيد الدين هدَّأه، و جعله يشترط عليها شرطاً إن حققته فسوف يوافق على طلبها.، وإلّا فسوف يقتلها. وبناء على مشورة الوزير، أمر ها الملك “أن تجلب سبعة أقداح ذهبية، بداخل كل قدح منها لؤلؤة كبيرة، يحمل هذه الأقداح سبعة من الخدم، يرتدون الملابس الاحتفالية المزركشة”.

     عادت الأم إلى بيتها، وأخبرت ابنها بما كان، فتناول حسن المصباح ومسحه، فظهر الجنّي أمامه ممتثلاً لأمره. أمره حسن أن يحقق لأمه هذا الشرط وأن يجلب لها كسوة فاخرة. وبعد أن حقق الجنّي طلبه، ذهبت أمه ومعها كل ما كان الملك أمرها به. فاندهش الملك ونادى وزيره الذي جاء في الحال، وحين رأى ما جلبته أم حسن، نصح الملك أن يشترط عليها شرطاً آخر وهو “أن يأتي العريس بنفسه إلى القصر ممتطياً صهوة فرس أصيل، يرافقه خمسة عشر فارساً يرتدون الثياب الفاخرة، ويركبون جياداً مسرَّجة بالذهب في موكب احتفالي وجيه. وقال الملك أريدك، بالإضافة إلى كل هذا، أن تجلبي لي ثياباً ثمينة مطعّمة بالذهب والألماس ولا مثيل لها في سائر البلاد، ولا تفي بثمنها ما في خزائن الملوك، وأسلحة من الذهب الخالص تزينها الأحجار الكريمة”.

     كل هذه الطلبات كانت جاهزة، بمساعدة الجنّي، في قصر الملك في صباح اليوم التالي. فما كان من الوزير الماكر إلّا أن يدفع الملك ليشترط عليها شرطاً ثالثاً، وهو “أن يشيد ابنها بجوار قصر الملك قصراً منيفاً على شاطىء النهر، يكون مكسوّاً كله بالذهب”. إن حققت للملك هذه الشرط فسوف يوافق على زواج ابنها من ابنته. كان الوزير يدفع الملك إلى اشتراط كل هذه الشروط الصعبة لأنه كان طامعاً في ابنة الملك، يريدها زوجة لنفسه.

عادت الأم حزينة إلى بيتها، وحكت لابنها ما اشترط عليها الملك من شرط آخر. فلما كان اليوم التالي، فرك حسن المصباح، فظهر الجنّي. فأمره أن يبني له قصراً منيفاً وفق ما طلبه الملك. وما هي إلّا لحظات حتى كان القصر جاهزاً وفق المطلوب، إلّا شُقّاً صغيراً في أحد جوانب  سور القصر لم يُكّمَّل بعد.

ثم دعا حسن الملك ليرى القصر، وقاده إلى حيث ذلك الشُق، وادَّعى أن ما معه من الذهب لم يكف لإكمال هذا الشق، فأخذ الملك إكماله على عاتقه، ودعا العمال إلى إنجاز ذلك، إلا أن كل ما كان في خزائنه من الذهب قد استنفذ ولم يكتمل بناء ذلك الشق. ومضى الأمر هكذا بضعة شهور، ثم أكمله جنّي المصباح، وأقيمت الاحتفالات بزواج حسن وابنة الملك. وعاشا معاً حياة سعيدة في القصر الكبير يحيط بهما الخدم والجواري

     أخفى حسن مصباحه القديم في ركن من أركان حديقة القصر، ولم يُطلع أحداً على سرّه، وكان يخرج أحياناً إلى الجبال للصيد. وانتشرت في الأرجاء أخبار ما آلت إليه أحواله من مجد وجاه وغِنى، وسمع الساحر “مير هاميد” بذلك، فعرف أن حسن إنما وصل إلى ما وصل إليه بفضل المصباح القديم، فهيَّأ عدداً من المصابيح الجديدة والجميلة الشكل، وقصد قصر حسن، ثم انتظر إلى ما بعد خروجه إلى الصيد.، فصار  ينادي بأن لديه مصابيح جديدة وجميلة، يبادلها بالمصابيح القديمة.

     حين سمعت الخادمات ذلك، أسرعن إلى سيدتهن زوجة حسن، وأخبرنها بما سمعن. عندئذ قالت لهن سيدتهن”هناك في أحد أركان الحديقة مصباح قديم، خذنه إليه، واستبدلنه بمصباح جديد”. فما كان من فرط فرح الساحر إلّا أن يعطيهن عشرة مصابيح جديدة بدلاً عن ذلك القديم.

     وما أن أصبح المصباح في يد الساحر حتى فركه، فظهر الجنّي ممتثلاً لأوامره، فأمره أن يحمل القصر بمن وبما فيه إلى إيران. وفي لمح البصر صار القصر هناك.   

     تفاجأ الملك حين لم يجد القصر في مكانه، واحتار في أمر اختفائه، فصار وزيره يلومه علىى سرعة اتخاذ قرار موافقته على زواج حسن وابنته.

     وإذ كانا منشغلين بأمر اختفاء القصر، عاد حسن من رحلة الصيد، وتفاجأ أيضاً باختفاء القصر بمن وبما فيه، وأمره الملك أن يعيد ابنته في غضون ثلاثة أيام. راح حسن يسير بجانب النهر يفكّر ويفكّر، وفجأة تذكر الساحرَ العجوز عمَّه الخبيث، وأيقن أنه هو من نقل القصر إلى بلاد إيران، ولكن كيف الوصول إليه، وإيران بلد بعيد”؟! ثم جلس عند شاطىء النهر  لعلَّه يروِّح عن نفسه قليلاً، وإذ حرّك يده، لمع ضوء على سطح الماء، فنظر إلى يده، ولما رأى الخاتم في إصبعه، تذكر أن الساحر كان قد أعطاه إياه، ليستعين به إذا ما ألمَّت به ضائقة ما.

     نزع الخاتم من إصبعه، وراح يحكه بصخرة حتى ظهر أمامه جنّي صغير، أمره حسن أن يعيد إليه قصره، ولكن الجنّي كان عاجزاً عن حمل القصر لصغر حجمه، فطلب منه أن ينقله إلى بلاد إيران، فحمله الجنّي إلى حيث قصره، فالتقى زوجته، التي حكت له ما حدث لها، وأن الساحر العجوز يُكرهها على الزواج منه.

     طلب حسن من زوجته أن تعقد وليمة للساحر وتدعوه إلى الشراب، ثم تدسُّ له مسحوقاً منوِّماً في الشراب. أخفت الزوجة زوجها في إحدى الغرف، ثم أعدت وليمة فاخرة، ولما عاد الساحر دعته إلى الطعام وشرب النبيذ بعد أن دسَّت له المسحوق المنوِّم في الشراب، فشربه الساحر، وما هي إلّا بضع دقائق حتى غاب عن الوعي. عندئذ خرج حسن من مخبئه، وفتَّش ثيابه حتى عثر على المصباح بين ملابسه، واستدعى الجنّي الكبير، ثم حمل الساحر إلى البهو الكبير للقصر ، فأيقظه وقال له”هذا عقابك على خداعك لي ولزوجتي” ثم قطع رأسه، وأمر جنّي المصباح، فنقلهم مع القصر إلى حيث كان بجانب النهر وقصر الملك، وعاش فيه هو وزوجته الأميرة حياة سعيدة هانئة.

     نجد هذه النهاية السعيدة في الحكاية الجورجية “الأشقاء التسعة([2])، التي يبحث فيها والد عن زوجات لأبنائة التسعة، فيوفَّق في إيجاد ثماني فتيات لثمانية من أبنائه، ويعجز عن إيجاد فتاة لابنه التاسع، وفضلاً عن ذلك يعترضه عفريت في طريق عودته مع الفتيات الثماني، ويمنعه من المتابعة إن لم يَعِدْه بإرسال ابنه “پولات” له، وهو ابنه التاسع. وإذ يصل إلى بيته، يخبر زوجته أنه وعد عفريتاً أن يرسل له ابنه “پولات”. حين سمع الأبن ذلك، توجَّه إلى حيث العفريت. يتعرَّض الفتى لصعوبات كثيرة وكبيرة، وفي النهاية ينتصر على العفريت بمؤازرة نصائح عجوز كبيرة في السن، يلتقيها في طريقه، ويعود إلى بيته وأهله رفقة فتاة جميلة، فيُعقَد للأخوة التسعة على الفتيات التسع، وتُقام الأفراح.

     تقول الحكاية: إن والداً لديه تسعة أبناء ذكور، طلبوا منه أن يبحث لهم عمن لديه تسع بنات ليتزوجوهن. خرج الوالد من بيته، وسار في طريق للبحث عن رجل له تسع بنات، التقى أثناء سيره عفريتاً، سأله عن عدد بناته، فكان الجواب ثماني بنات، فتركه وتابع سيره، فالتقى عفريتاً آخر، سأله عن عدد بناته، فكان الجواب سبع بنات، فغادره وتابع سيره باحثاً عن تسع بنات.

     تابع الوالد سيره، حتى وصل إلى ملك، عرف أن له ثماني بنات جميلات، فقال بينه وبين نفسه: “فلأقم بخطبة الفتيات الثماني، ثم أنظر ما يكون”. كتب إلى الملك خطاباً يبدي فيه رغبته في خطبة بناته الثماني لأبنائه، وافق الملك، وجهَّز بناته للزواج. وبينما كان الوالد عائداً ومعه الفتيات الثماني، اعترضه عفريت، ومنعه من متابعة السير نحو بيته، إلَّا بعد أن يقطع له وعداً بإرسال ابنه “پولات” إليه، فوعده بذلك، فسمح له العفريت بمتابعة طريقه.

تابع الوالد سيره، ولمَّا اقترب، رآه ابنه”پولات” قادماً، فاستقبله فرحاً، وسأله عما إذا كان قد وُفِّق في مسعاه، إلَّا أن الوالد ظل صامتاً. وبعد أن أعاد الفتى سؤاله، والوالد مازال صامتاً، ذهب إلى أمه، وسألها عن سبب يجعل والده يقاطعه ولا يتحدَّث إليه. فذهبت الأم إليه وسألته عن سبب مقاطعته ابنه “پولات”. كان الفتى يسترق السمع إليهما، ولمَّا عرف السبب، صمم على الذهاب إلى حيث ينتظره العفريت. بعد وصوله طلب العفريت منه أن يذهب إلى الملك نفسه والد البنات الثماني، فله بنت أخرى أكثر جمالاَ، وكل من ذهب لطلبها للزواج لم يعد، وعلى الفتى أن يحضرها، ليتزوجها العفريت.

     يمضي الفتى في طريقه نحو قصر الملك، فيلتقي عجوزاً، يحكي لها قصته، ويطلب مشورتها، فتشير عليه العجوز أن يتابع دربه، سوف يلتقي ثلاثة رجال، أحدهم نَهِم، يكاد لا يشبع مهما أكل، والثاني يشرب ولا يرتوي، والثالث، مهما حمل من الأثقال، يطلب المزيد.

     يلتقي الفتى بالثلاثة على التوالي، ويأخذهم معه، وعند وصولهم إلى قصر الملك والامتثال بين يديه، طلب منه الفتى أن يزوِّجه ابنته. اشترط الملك على الأربعة أن يأكلوا تسع سِلال من الخبز، ويفرغوا منها حتى المساء، فبدأ النَّهِم بالتهام كل ما في السلال. اشترط الملك شرطاً آخر، وهو أن يشربوا برميلاً من الجعة، ويفرغوه حتى المساء، فانكب الآخر على البرميل، وشرب ما فيه، ولم يرفع رأسه عنه حتى أفرغه. بعد ذلك توجَّه الفتى نحو الملك، وطلب منه أن ينفذ وعده، ويزوِّجه ابنته، وإلَّا فسوف يأخذها عَنوة. وطلب من حامل الأثقال أن يحمل القصر على ظهره، ففعل، وفي طريق العودة طلب منه الملك أن يتركه، ويأخذ ابنته. وبعد أن وافق الفتى، جهَّز الملك ابنته، ومنحها الكثير من المال، وباركها وتركها تغادر القصر، وتمضي مع الفتى.

     والآن على الفتى أن يجد وسيلة للاحتفاظ بالفتاة لنفسه، فمضى إلى تلك العجوز لتنصحه ماذا يفعل. فنصحته ألَّا يدع الفتاة تدخل بيت العفريت، بل عليه أن يقف خارجاً، ويناديه كي يخرج، ليرى الفتاة، عندئذ على الفتى أن يُسقِط عليه حجر الرحى المعلق فوق باب بيته. وهذا ما فعل الفتى، فقضى بذلك على العفريت، ثم دخل إلى بيته، وأخذ كل ما كان فيه من مال وجواهر، قسَّمه إلى أربعة أقسام، وأعطى كل واحد من الرجال الثلاثة قسماً منه، وأما حصته، فقد منحها العجوزَ، وتابع طريقه نحو بيته، فأقيمت الأفراح، وتزوَّج الأخوة التسعة من الأخوات التسع. 

     إن هذه الحكايات ومثيلاتها تمثِّل مرحلة متوسطة بين الأسطورة والحكاية الشعبية، وهي كما رأيناها تنتهي بانتصار الخير على الشر، ولعلها ترمز بذلك إلى أن الخير هو المنتصر في الحياة مهما بلغ الشر قوة وعتوّاً، وتلتقي في ذلك مع الفلسفة الكوردية تجاه الكون الذي لا بد أن ينتصر فيه الخير على الشر.

    نجد في الموروث الكوردي حكاية “عفاريت الجن([3])، تشبه الحكايات السابقة في كثير من أحداثها، إلا أن خاتمتها مختلفة. ففي الوقت الذي تنتهي تلك نهاية سعيدة، تنتهي هذه نهاية حزينة، إذ يفقد الشاب ما حصل عليه، وما صار إليه من غنى، لكأن ما كان لم يكن أبعد من حلم، استيقظ منه بطل الحكاية على الحقيقة.

 تدور أحداث هذه الحكاية عن ابن عجوز فقيرة يعمل راعياً، يجد ذات يوم خاتماَ، وحين يضعه في اصبعه، يظهر له عفريتان، يمتثلان لأوامره. يبني العفريتان له ولأمه قصراً بناءً على رغبته. ويرسل الفتى أمه العجوز إلى قصر الملك لتخطب له ابنته ويعطيها الخاتم، لتستعين به، فيشترط الملك ثلاثة شروط، إن حققتها العجوز، فسوف يوافق على هذا الزواج، وإلَّا فسيقتلها.

     أول تلك الشروط، هو أن تحمل العجوز وعاءين مكشوفين مملوأين حليباً، وتصعد على سلالم قصره إلى الطابق الأعلى، ثم تنزل بالطريقة نفسها، دون أن تسقط قطرة واحدة من الحليب على السلالم، وأما الشرط الثاني، فهو أن تبني العجوز له قصراً أجمل وأكبر من قصره، وأما الثالث، فهو ألَّا تتعرض ابنته لأشعة الشمس حين تأخذها عروساً إلى بيتها.

     كانت العجوز تستعين بالخاتم في اصبعها لتنفيذ كل شرط، فيظهر أمامها عفريتان يمتثلان لأداء طلباتها، وحققا لها الشروط الثلاثة، ففي تحقيق الشرط الأول، لم يُرَ أثر قطرة واحدة من الحليب على السلالم، وفي الثاني حمل العفريتان قصر الفتى ووضعاه بجانب قصر الملك، وفي الثالث، طلبت العجوز من العفريتين أن يزرعا المسافة بين قصرها وقصر الملك أشجاراً ووروداً، بحيث تحجب الشمس عن العروس حين تمشي إلى قصر عريسها.

تزوج الفتى ابن العجوز من ابنة الملك، وعاش الثلاثة، الفتى وعروسه وأمه العجوز، في القصر الكبير الذي بناه العفريتان، إلا أنه فَقَد الخاتم ذات يوم، فزال القصر بحدائقه وأشجاره المحيطة به، وعاد الفتى إلى عمله السابق راعياً يقود قطيعه إلى المراعي. لكأن الحكاية تدعو إلى العمل، وتقول إن الأماني لا تتحقق بالأحلام.

([1]عبد الرحمن عبد الرحمن الخميسي: أساطير شعبية من أوزبكستان، ترجمة، ج 2، الطبعة الثانية، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2009، ص 245.

([2]عبد الرحمن عبد الرحمن الخميسي:  الحكايات الشعبية لشعوب آسيا، ترجمة، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، القاهرة 2016،، ص 407.

([3]).Rukiye Özmen: çîrokên şevbihurkan. Weşanên DOZ, çapa yekem, Îstanbul 2002, rû 21-25 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

هؤلاء أصدقائي كلنا جئنا من جهات مختلفة من سوريا (عفرين، كوباني، قامشلو والحسكة)، نحن أبناء مدن كانت بعيدة عن بعضها، ولكن الغربة قربتنا حتى صار بيننا ما هو أقرب من المدن.

لم يكن يخطر ببالي أننا سنلتقي يوماً ولا أن قلوبنا ستتشابك بهذه الطريقة، لكن الغربة بحنينها القاسي جمعتنا، وجعلت من…

زوزانا ويسو بوزان

حبّذا لو نتغاضى طرفًا…
نمرُّ هامشيّين على أطراف القرى،
نسيرُ كما يشاء لنا الريح،
نخطفُ فاكهتنا من حقائب الغجر،
ندخلُ خيامهم سرًا،
نغفو على موسيقاهم،
ونحلمُ كما يحلمُ الغرباء.

أغوصُ في التغاضي،
ألهثُ خلف أحاسيس مبعثرة،
ألملمُ شظايا ذكرياتٍ،
أتخاصمُ مع الواقع،
كأنني أفتّشُ في سرابٍ لا ينتهي.

كما أنقبُ عن ذاتي،
في مرآةٍ مكسورة،
ترسمُ ملامحي كما تشتهي،
تغفلُ ما خُطَّ على جبهتي من تجاعيدِ الرحيل،
ولا تُظهرُ…

أحمد عبدالقادر محمود

 

الجبلُ يبقى شامخاً لو عبثت فيه الفئران

صلدٌ لا ينحني و إن غزتْ سفحه الغربان

لا يرتضي بالخنوع و إن رمته النائباتُ أذان

تبقى المهابة فيه لو دنت الجيْفُ والخصيان

يعلو ولا يستجيب لمنْ أتاهم ذلَّة إذعانُ

صخرٌ ولكن ينادي في المدى عزَّة و برهان

لا تنكسرْ عزّتهُ لو مزقوه قسوة و هوان

يصغي لصمت الرياح و في ثناياه الأسى…

تنكزار ماريني

يتكشف عنوان ”سيرة عابر ألغام“ من رواية حليم يوسف القوية مثل لوحة معقدة من المعاني والمشاعر التي تتجذر بعمق في سياقات شخصية وسياسية. يمكن تقسيم هذا العمل الأدبي إلى مفهومين مركزيين: ”السيرة الذاتية“ و”عابر الألغام“. ويدعو كلا الجانبين إلى تفسير متعدد الطبقات ويلقي الضوء على ازدواجية الحياة في ظل نظام القمع.

مستويات تحليل العنوان:

يستدعي عنوان…