يسير ربيع البعيني إلى مصير كائناته و يلتقي بربه ليرسم له صور الوحوش التي غدرت به 

غريب ملا زلال 

 

التباس أشبه بالخرافة

وأنت تتأمل أعمال الفنان التشكيلي السوري ربيع البعيني لا تنسى سترة النجاة، فالغرق في أوجاعه التي هي أوجاعنا وبالتالي لا مفر منه. الوجع عند هذا الفنان ضارب جذوره في الأعماق، وهذا فصل من حكاية يسردها لنا، نسردها معا، حكاية لا تنتهي، حكاية يثير البعيني مقاطع منها عله يعثر على نواتها المنغمسة في النخاع الفاصل والواصل والحامل لذاكرة تلك الحكاية وبالتالي الحامل لذلك الوجع الذي يصر الفنان السوري على تحسسه، وتلمسه دون أن يترك التأمل في الزمان والمكان، ودون أن يوقظنا من تأملنا في أعماله ووجعها.

خفايا الوجوه عند الفنان التشكيلي تروي سير الرهان الطويل، الرهان الذي جعل الملامح تقع على الطريق

خفايا الوجوه عند الفنان التشكيلي تروي سير الرهان الطويل، الرهان الذي جعل الملامح تقع على الطريق

البعيني وفي هذه المرحلة الزمنية الصعبة لا ينتظر أحدا حتى يقول فعله، وإن قاله لا ليبلغ المقصود، بل ليمشي صامتا إلا من هسيس روحه وألوانه، يمشي بخطوات من حلم وضوء، يستعرض التعب في كائناته، تلك الكائنات التي تتناقل بدورها بين ذلك التعب إلى درجة فقدانها القدرة على سحب أرواحها ولو باتجاه البرق، فكل المؤشرات الدالة عليها توحي بالتصدع، توحي بتصدع المعاني واللحظات التي باتت في العراء، تصدع الرهان الذي قوامه تعدد الهزائم، وإفراغ الحكاية من أبعادها المعهودة.

خفايا الوجوه عند هذا الفنان التشكيلي تروي سير الرهان الطويل، الرهان الذي جعل الملامح تقع على الطريق، تلك الملامح التي كانت تنطق بالإبهار القادم من مقوماتها العديدة والتي تتصل بالزمن الذي همش الآن.

البعيني يظهر الالتباس الأشبه بخرافة سردتها إحدى جداتنا على لسان أميرة الجان، وفي ولع يعمق ما يذهب إليه، لا ليربطها بخيوط تهذي على مر العويل، بل ليغير رائحة ارتعاشاتها وهي تلد في ثنايا الحكاية، وهذا ما يميز ورطته الجميلة بتبعاتها في السير بصوته إلى مصير كائناته، بل إلى مصير الحكاية ذاتها وإن داخل مؤشراته المنفتحة على مجموعة من اختياراته جلّها ترصد أقداره هو وأقدار تلك الحكاية ذاتها بكل أحداثها.

وعندما يتعلق الأمر بوقائع يجب أن تروى، عاشها الفنان التشكيلي البعيني وكذلك عاشها متلقوه، لا يتأخر البعيني في سردها برؤيته الخاصة، رؤيته المغايرة للمرويات المعتادة، عبر مشهده البصري النابض بحفريات روحية، المتعلق بجوانب ما بمحور تجربته، والمهيمن بتجاذب حالاته وتأملاته، وهذا ما يقرب ذلك المشهد من روافد لانزياحات خاصة، تتبعها رغبة النزوع إلى التجاوزات الصوتية في نص واحد، أقصد في عمل واحد. وقد يكون كل ذلك مساعدا لنا في تحديد جمالية المشهد ذاته، وبوصفه تحولات لأفق تفرض ضربا من وجهات جمالية يطغى عليها تعدد الخطاب وعدم تعثر مقولاته.

البعيني لا ينقل الوجع من موقف جمالي مبني على توظيف الإيقاع بشعرية كئيبة تمنح سرده براعم الصعود في عيون هدها التعب

ويبدو لي أن القلق غير المبالغ فيه والذي بقي يرافق كائنات ربيع البعيني بعد سلسلة طويلة من العنف والتعذيب الروحي والنفسي والجسدي عاشتها تلك الكائنات في أقبية الحياة المختلفة، قلق قد يكون بمقدوره أن يشعل المشاعر بقوة ويحفزها على التمرد والتحدي، وما الأنساق الشكلية لمفرداته إلا تعميق لرؤيته تلك، رؤيته الفكرية منها والفنية، والتي تشكل منحى عاما لأسلوبه والتي فيها ما يوازي انتقائية أسلوبية وتجريبية.

ما أرساه البعيني هنا من منابع فنية، جمالية، تعبيرية متنوعة، وبأبعاد تكوينية أو لونية يجعله يرسي بمرساته على شاطئ جله تنوع الدلالات تبعا لتنوع القراءات. هذا ما يمنح تجربة الفنان عدة روافد بأنماط مستحدثة، مواكبة لعجلة الحركة التشكيلية ومستجداتها، وما يجعله أيضا قادرا على حمل مشروعه الجمالي دون “رتوش” (تعديلات) أو نقوش، ودون أن ينغلق على موضوعاته لاحقا.

واختصارا نقول إن البعيني لا ينقل الوجع من موقف جمالي مبني على توظيف الإيقاع بشعرية كئيبة تمنح سرده براعم الصعود في عيون هدها التعب، عيون معلقة بأصوات أشبه بمدائن الاحتجاج، لا ينقل الوجع من موقف فكري على أهمية إحالته المرجعية كنص إبداعي، بل يحرض كائناته بكل أشيائها، وينقل فعل التحرر إليها من قوانينها الداخلية إلى السطح كميثاق حكائي ينتج نصوصا مغايرة من حيث مشروعية التحول بعيدا عن النمذجة.

يشار إلى أن الفنان ربيع البعيني من مواليد مدينة العاصمة السورية دمشق، عام 1978، وهو خريج المعهد المتوسط الهندسي عام 2002، وشارك في معارض خارجية أهمها في الإمارات العربية المتحدة، وجمهورية نيجيريا.

اتجه البعيني في بعض لوحاته وخاصة تلك التي قدمها في معرض له بعنوان “مزاج علني” للإنسان والإنسانية، فكانت عبارة عن وجوه تنوعت في معانيها التعبيرية وأعطت عددا من المعاني الإنسانية المختلفة التي تمكن من الدلالة عليها عبر التعرجات الوجهية والدلالات التي رسمها على تلك الوجوه مستخدما تقنية الأكريليك.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

إذا ما وقفتَ على إحدى ذرى جبال طوروس ونظرتَ إلى الأسفل حيث “بريا ماردين”، ستجد قرية صغيرة مرمية هناك كعش طائر القطا، تطل عليها الشمس أوان شروقها لتوقظها متسللة عبر الستائر السميكة المتدلية على نوافذها. إنها قرية كَسَر.

هناك، يعيش “آپـێ ره شو – Apê Reşo”، رجل خمسيني ذو شارب كث، لا يفرّق بين الثقة…

عصمت شاهين الدوسكي

كانت صدفة على هامش الطريق حين التقيته للمرة الأولى. نادى باسمي، رغم أنني لم أعرفه من قبل، كان عام 2017م. كنت قد رحلتُ من الموصل، بعد أن ابتلع الدمار بيتي وسيارتي وأرشيفي الأدبي، إلى دهوك، حيث وُلدتُ، لكنني شعرتُ فيها بالغربة رغم كثرة الأقارب من حولي. كنت…

فراس حج محمد| فلسطين

 

لماذا نحن لم نصرخ بوجه الطائرات؟

لماذا نحن لم نرجم بوارجهم بفوح البارجات؟

لماذا نحن لم نمسح عن الفتيان هذا اليومِ

شرّ الصاعقاتْ

لماذا نحن لم نتقن سوى اجترار الأحجياتْ؟

لماذا نحن ننتظر السؤال نصوغه بمجازه؟

والعجز كلّ العجز في هذا السباتْ

***

لماذا كلّ ما فينا فوات واندثار ومواتْ؟

لماذا يدخلون البيتْ

يأكلون من قصعاتنا

ويلبسون جلودنا

ويشربون دماءنا

ويبصقون في عوراتنا

ونحن هنالك قابعونْ

على…

سعيد يوسف

 

ها هم قادمون… في رتل مهيب. الجميع حضوراً ومتابعين، في حال من الترقب والذهول، والدهشة والخشوع والتوجّس والحذر. الصمت وحده سيد الموقف، لا أحد يستطيع استكناه المشاعر، وحدهم يستطيعون فهم انفسهم وربما لا…

في المقدمة إحدى ربّات السلام والحرية والجمال

في مشهدٍ رمزي مؤلم وتراجيدي محزن… قل ما شئت فلن تكون مخطئاً.

يتقدمون بخطى وئيدة متثاقلة… جاءوا…