الأديبة كليزار أنور والبيت القديم، البيت القديم، حنين للوطن ورحيل قدر

عصمت شاهين الدوسكي

الاحساس المرهف يفجر المشاعر المكنونة والآمال الميتة

كلیزار أنور عندما فتحت عیناھا للحیاة وعرفت بعض أسرارھا، قاومت كل الأشواك التي تحیى حولھا ،أبت أن تكون نرجسه نائیة ، جرداء ، بلا نور ، خرجت من بین الطلاسم المظلمة لتغیر ذلك الهواء بهواء نقي وترفض التقالید الفكریة البالیة ، رسمت لنفسھا طریقا وعرا، شائكا، غائرا بالأفكار الجدیدة والتمتع الذهني والإبداع ، لأنھا لا تحب الأشیاء المقدمة على طبق من ذھب، تتأمل خیوط الشمس من النافذة فیشع في صدرھا حریة التفكیر والانطلاق إلى مسافات غیر مرئیة ، ترى الناس تدنو من أمالھم ،أحلامھم، ضیاعھم، وخطوبھم التائهة في لجة الحیاة ، فتصوغ حكایات جمیلة تثیر النفوس وتحرق الأفئدة الهادئة، یمتد حبر قلمھا، یبحث عن الخیر والشر ، الحب والحرمان ، الحیاة والموت ، التألق والضیاع ، ومضادات أخرى، لا تھرب من یدیھا، مستعینة بھا لتكمل النص ، أقبلت من (ألعماديه – التابعة لمحافظة دهوك ) من هناك تحمل جذور شجرة صنوبر، وأوراق شقائق النعمان ،لتبعث بھم الروح والعطر الجبلي، رمت فتاتا ( للقبج ) تاركة معھ ذكرى الثلوج والمدفأة الخشبیة الملتویة ، والجنائن الزاهية ، دنت من عیون الغدیر فرأت الجبل في صفائه ،ارتوت فتجسد الجبل والجمال والحب في القلب ، غدت تستمد منه الإصرار، القوة، الطموح ، ودحر المستحیل ، من تلك القوة وهذه الإرادة المنبعثة من روحھا صاغت سبیلا أدبیا بنفسجیا ، فتغزل بأسلوبھا المتمیز أروع الحكایات ، تمتاز لغتھا بهالات وابتهالات شعریة وجدانیة ، وبتجل صریح ملتھب الآهات والانفعالات الصادقة ، إحساسھا المرھف یفجر المشاعر المكنونة والآمال المیتة والأهداف المستحیلة ، لغتھا تستسیغ لھا كل النهى ،وآفاق الأفئدة ، رغم الاستعارات والمجازات التي تضیف لمادة النص جمالا وبلاغة ، في قصتھا القصیرة ( البیت القدیم ) تدور محاور عدة أھمھا (الذكریات – البیئة – البیت القدیم) والبیت القدیم ھو بدایة وطن أو الولادة الأولى للوطن ، ثم المحور الأخیر (الهجرة – القدر – والعودة إلى الذكریات) تتجلى الذكریات . بصورھا الشجیة والواقع المؤلم التي آلت إلیه تلك البیئة النائیة وینفرد بي الحزن … یسقطني من أخادید الذكرى العمیقة … ذكرى مؤلمة تعود منھا النفس مھشمه على تلك الصخور الجارحة ، في تلك )) ((.. الأخادید … تتزاحم الذكریات عندما تمتاز ذكریاتنا بالرحیل ، بالفراق ، نقف لحظة لنستنشق الهواء ، كأننا نطفئ بركان الأعماق ونتأمل ، ویكبر تأویلنا للذكریات المؤلمة ، . لكن دون أن تنطفئ جمرة الماضي فینا ((… كل منا مضى على طریق نهايته … وغابت الصورة التي التقطھا قلبي لھ في آخر لقاء )) .

ندنو من المحور الثاني للقصة ” البیئة – العمادیة ” توصفھا الكاتبة كما یلي على الجانبین تلمع الحقول الخضر ، تحت وھج الشمس ، وتقترب كلما اقتربت أكثر .. مدینة معلقة على رأس جبل خصھا الله بطبیعة رائعة )) ، أصل إلیھا .. توقفني بوابتیھا ” باب الموصل – وباب الزیبار ” بابان حجریان لا یعلم سوى الزمان في أي تاریخ قد شیدا … منحوت علیھا ((.. عقبان وأفاع رموزا للقوة والحكمة ھذا الوصف الدقیق الجمیل لأمارة بھدینان ” العمادیة ” لم یأتي من نسج الخیال ، نسجا مسلط علیھ قوة الاختراع والدھشة ، بل من بیئة حقیقیة ، التقطت بالملاحظة والمشاهدة ، خاصة لو علمنا أن ” العمادیة ” مسقط رأس الكاتبة ، فسرد الحوادث ورسم الشخصیات لیست بعیدة عنھا ، ولا باس أن نستعین بالتاریخ كصورة زمنیة غابرة ، تمتزج معھا اللمسات الفنیة والفكریة وتحیلھا إلى بساط تتحرك علیھا كل الخطوب . ، رغم إنھا تحصر أفق القصة في نطاق مرسوم لھ سلفا أتجول في طرقاتھا وحیدة … ھل أبكي ؟ فالوجھ الذي أعطاني كیاني ، المعنى الكامل ، لا یسكن ھذه الدیار ، وتأخذني الدروب نحو البیت )) القدیم … بیت واسع یغفو في حضن الجبل … أطرق الباب وأنا أعلم … لیس فیھ أحد .. أفتحه ، تواجهني روائح الطفولة … ما أعذبھا … ((.. البیت الذي ولدت فیھ البیئة والطبیعة تترك آثار في النفوس ، وفي تكوین الأذواق والأفكار والشخصیة ، انھا وطن الطفولة والحنین والأمل والعودة الیھ ، عودة إلى حضن الأم ، مھما كان زمن الفراق أو الابتعاد بسبب ظروف ما ، والتنائي الذي لیس لھ حدود یضع حاجزا درامیا بین العودة والقدر ، الذي یكون الهاجس الوحید لسیاق الھجرة ، من ھنا تصور كلیزار أنور طبقة معینة من الناس لا تخرج عن إطار تجاربھا الخاصة ، فتغدو صورا . واضحة ، طبیعیة ، ومحددة دون إسراف أخرج إلى الفناء … أنظر من خلال السیاج إلى بیت الجیران … لیسوا ھم .. شرود … )) تجلي العواطف الشخصیة وارتقاء ذاتھا )) وإحساسھا تجاه موقف ما یضیف للتطور السلمي للنص بعد آخر ، وعاملا مؤثرا في سیر الأحداث المؤثرة ، والبیئة والشخصیات ، وسائل یجدھا بین یدیھ فیتمكن منھا القاص ، وهنا في ” البیت القدیم ” لم تتمكن منھا الكاتبة كلیزار أنور فقط ، بل أضافت إلیھا تصویرا بدیعا ، كلوحة حزینة ، جمیلة ، ترنو لفرشة فنان ، وجعلت من الوصف الدقیق شعرا غائرا في الروح الشجیة ، وبلاغة تلوذ إلى بلسم الجراحات . البشریة ، وإنقاذ ما یمكن إنقاذه من محراب التجارب الذاتیة یوقفني الجدول الآتي من جبال ” سولاف ” … أجلس على ضفافھ الهادئة .. أسمع خریره الخافت .. انظر الى المیاه الصافیة وھي تنساب )) فوق الحصى برفق … تیاره الجاري یأخذ الفكر نحو البعید … كم من الزوارق صنعناھا من دفاترنا المدرسیة … وكم حملناھا بالآمال ؟ ((… وفي إحدى المرات صنع زورقه من دفتر الرسم .. سألته : لم صنعتھ كبیرا ؟ … كي یسعنا نحن الاثنین نقطة البدایة كالنهاية ، كونھا دائرة الذات المرئیة ، ومهما كان أسلوب النهاية ، فھي معنى لكل السطور الماضیة ، صورة مجسدة من الذات لتلمس الواقع ، وترتقي بھ حیث یكون المعنى كاملا ، حتى لو كان كلمة واحدة ، وتحضرني هنا موعظة ” فلوبیر ” فحواھا انه مھما یكن الشيء الذي یسعى الإنسان إلى التعبیر عنھ فان هناك كلمة واحدة تعبر عنھ ، فعلا واحدا یوحي بھ ،وصفة واحدة تحدده ، وعلى الكاتب أن یطیل البحث والتنقیب حتى یعثر على هذه الكلمة وذاك الفعل ، وتلك الصفة ، یا ترى ھل عثرت ” كلیزار أنور ” على ذلك المعنى وتلك الكلمة ..؟ ألم یقل سنبحر معا .. إذن كیف ترك البلاد .. تمنینا كثیرا وماتت الأمنیات مع الأیام … السكون تماما .. والظلام بدأ یتكاثف بسرعة .. لم تعد )) عیناي ترى غیر أقرب الأشیاء ، دائما نور الذكرى تحج الیھا … كمن یبحث عن الحب في ماض لن یعود .. تنبش في رماد الذكریات عن بعض ((.. الجمر ، لتنبض الحیاة فینا من جدید كلیزار أنور بثقافتها المتمیزة واطلاعھا الواسع ، تضع موسیقى جمیلة لأسلوبھا الفني ولغتھا السلیمة ، فتسیطر على النفوس ، یمتد اللحن الروحي إلى القارئ ، دون أن یدري ، فینجذب لھ دون تعثر أو مشقة ، وھي قاصة مثابرة أثبتت حضورا محلیا وعربیا وسیكون لھا شان في المستقبل القریب في میدان القصة القصیرة والروایة ، لم یبقى سوى أن أقول ” البیت القدیم ” حنین للوطن ورحیل قدر والذات في القصة ھي المستقبل القریب في میدان القصة القصیرة والروایة ، لم یبقى سوى أن أقول ” البیت القدیم ” حنین للوطن ورحیل قدر والذات في القصة ھي . البطلة الوحیدة مع رحاب الذكریات الماضیة وھو مسار ارتقاء النص القصصي .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…

مازن عرفة

منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، يتسارع الزمن في حياتنا بطريقة مذهلة لا نستطيع التقاطها، ومثله تغير أنماط الحياة الاجتماعية والإنسانية، والاكتشافات المتلاحقة في العلوم والتقنيات، فيما تغدو حيواتنا أكثر فأكثر لحظات عابرة في مسيرة «الوجود»، لا ندرك فيها لا البدايات ولا النهايات، بل والوجود نفسه يبدو كل يوم أكثر إلغازاً وإبهاماً، على الرغم من…

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…

غريب ملا زلال

رسم ستار علي ( 1957_2023 ) لوحة كوباني في ديار بكر /آمد عام 2015 ضمن مهرجان فني تشكيلي كردي كبير شارك فيه أكثر من مائتين فنانة و فنان ، و كان ستار علي من بينهم ، و كتبت هذه المادة حينها ، أنشرها الآن و نحن ندخل الذكرى الثانية على رحيله .

أهي حماسة…