قصة لطفولتنا على ضفاف الخابور

المحامي حسن برو
قرب النهر الذي ينساب هادئًا في حضن الأرض، كانت طفولتنا تنبض بالحياة هناك.
فوالدنا يكدّ يوميا في الحقول ليؤمن قوت يومنا واستمراريتنا في العيش الكريم ، وحين يعود إلى البيت، يفتح لنا كل أبواب الفرح، كنا ننتظره قبل أن يصل الدار المطلّة على ساحة واسعة، تحدّها من الجنوب قناة ماء تجر خيوطها من النهر نحو الحقول، وقبل أن تصل لتلك القناة، تطل على خمس شجرات من التين، ثمارها مباحة لكل يد صغيرة تمتد إليها.

في باحة منزلنا، كانت لدينا شجرة توت عظيمة الجذع، تبسط ظلها على قسم كبير من السطح، وتتدلّى أغصانها حتى تغطي ثلث المساحة التي يطل عليها المنزل ،ومن خلف بيتنا البسيط، كان الطريق الذي يؤدي إلى الخابور يمرّ بمحاذاة بساتين المشمش التي تملكها عائلة خزناية، وعلى طول قناة الماء التي تعود لعبد الرحمن أسعد، يمتد صف طويل من أشجار الزيزيفون والرمان .
كانت حياتنا بسيطة، وجوعنا مؤقتا، وسدّ ذاك الجوع تحتاج فقط لمغامرات صغيرة نحو البساتين……. فنقتطف على عجل بضع حبات بندورة أو خيار، نأكلها في الطريق أو نرمي بعضها نحو النهر، ثم نهاجم كأسراب الجراد أشجار المشمش الحامض قبل أن ينضج تمامًا، بتوجيه من الأكبر سنا بيننا ، وإذا أمسك بنا أحمد جيفي لم يكن يضربنا، بل يكتفي بمصادرة ما جمعناه ويترك لنا القليل. أما إذا أمسك بنا نهاد شركس، وكيل عائلة الخزناوي، فكانت كفوفه الخفيفة على أيدينا المتسخة تسبق تمتماته العربية التي لم نفهمها، سوى كلمات تعلمناها من أبناء جارنا صالح طوطو، العربي الوحيد بيننا.
وحين تنتهي الغزوات، كنا نتجه إلى الخابور. الكبار يسبحون، ونحن نتشبث بأغصان الأشجار ونغمر رؤوسنا في الماء. أحيانًا نجد أسماكًا ميتة بفعل أصابع الديناميت التي يلقيها أحدهم، فنربطها بخيط من الزل الطري عبر أفواهها وغلاصمها، نعلقها على أعناقنا كما لو كنا جنرالات عائدين من معركة، نحمل نياشين النصر لنوفر للعائلة وجبة ذلك اليوم.
أما البيض، فكان حكاية أخرى ،كنا نراقب أعشاش الحمام البري بين أشجار الصفصاف على ضفة الخابور، نحصي أيام نمو فراخها، ثم نأخذها قبل أن تطير، وفي الطريق نقطع رؤوسها ونلقيها في باحة المنزل، مجبرين أمّنا على طهيها رغم توبيخها لنا وملاحقتنا بحذائها. لكننا، وبالرغم من كل ذلك، لم نتخلَّ عن هذه العادة التي تتكرر كل عام.
كانت طفولتنا على الخابور مزيجا من البراءة والمشاكسة، من الفقر والوفرة، من الخيال الذي يصنع من كل مغامرة بطولة. واليوم كلما ابتعدنا بذاكرتنا عن النهر الذي جف ينابيعه ظلّت ضفافه تسكن فينا، كأن مياه الخابور ما زالت تجري في عروق ذاكرتنا، ترويها بحكايات لا تشيخ.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

كما هو معروف، كانت الموسيقى المبكرة البدائية عنصراً طبيعياً وغير واعٍ ، نحن نؤمن أن الموسيقى تم اكتشافها من قبل البشر استنادا ًعلى أصوات الطبيعة وتقليدها.

من الواضح أن الأغاني والموسيقى نشأت بفضل فهم الناس لها، ابتكروها واستخدموها تلبية لاحتياجات حياتهم. إن تطور الآلات الموسيقية اليوم هو نتيجة تطور تلك الآلات الموسيقية المبكرة البسيطة.

وبعد أن خرج…

ناشرون فلسطينيون (رام الله- فلسطين)

سياق الكتاب وإلهامه

كتاب “الصوت الندي- تأملات في الأداء والأغاني” للشاعر والكاتب الفلسطيني فراس حج محمد عمل أدبي- ثقافي يجمع بين التأملات الشخصية والتحليلات الثقافية حول الغناء العربي ودوره في تشكيل الهوية الفردية والجماعية.

صدر الكتاب مؤخراً عن دار الرعاة للدراسات والنشر في رام الله ودار جسور ثقافية في عمّان، ويقع الكتاب الذي…

غريب ملا زلال

يصعد الجبلي الريح عالياً
ويهتف :
الجبل لي
يبتسم الحجل
وهو يحلق في السموات التسعة
مغرداً :
الجبل لي
النسمة القادمة من الربيع
ومن أعلى شجرة في غابات المدى
تهمس :
الجبل لي
الاغنية الخارجة
من حنجرة المغني
كقبلة عاشق لحبيبته
لم يلتقيها منذ سنوات
تردد :
الجبل لي
اللحن الحزين
من ناي راع أرهقته المسافات
يئن :
الجبل لي
ألا يمكن أن يكون الجبل
للجبلي
وللحجل
وللنسمة
وللمغني
و للراعي —–معاً
=========

العمل الفني
لجوهر محمد علي

رشاد فارس / سورية

 

في عام 1997 جرت مسابقة للقصة القصيرة في مدينة حمص

وأنا شاركت مع مجموعة اتحاد كتاب درعا وقتها

وبعد شهرين من تقديم النسخ تم دعوتنا إلى المركز الثقافي في مدينة حمص

وكانت القصص المشاركة وقتها 83 قصة آنذاك. …وعند ذهاب للمركز تفاجئت بالكم الهائل من الكتاب والأدباء وكبار المسؤلين وعلى رأسهم نجاح العطار. ..وزيرة الثقافة…