نظيرة إسماعيل كريم بين الواقع واللا واقع إبحار بلا حدود وسفر بلا مسافات وغربة بلا اغتراب

عصمت شاهين الدوسكي

إن الذي يقرأ حياة الأدباء والمفكرين والفنانين التشكيليين والباحثين في مجال الحضارة بكل تفاصيلها الدقيقة، المتجلية والخفية، يحس إن تراكمات الوله والعذابات والإحساس المرهف والآلام والأحزان تطغى على عمق الأفكار المنبعثة من الروح والقلب والنفس والذات، ومن تناقضات الواقع المؤلم الذي يهب إشارة مشحونة تعلن عن الكتابة، فالأرواح الهائمة تتلظى في العتمة لتجد سبيلا إلى الرجاء، والوصول إلى التوحد مع الحلم الذي قد يأتي أو لا يأتي.

سطوة الواقع على أرض الإنسانية من فساد وخراب ودمار وقسوة القاضي الأسود، وجهل العدل المغمد في جعبة الأنا، تمد ذات الآخر حدين، أما الهروب أو المواجهة. وقد يكون الهروب ليس حلا، ولكنه يعتبر وسيلة للنجاة والخلاص من الجهل والفساد، وقد تكون المواجهة ليست حلا، فقد يكون الاغتيال والاختطاف والقنص والسجن بالمرصاد، في واقع كراسي المذهبة للجاهل وليس العاقل.

عندما يكون الجهل حاكما والفوضى شريعة، تكون الذات المتقدة علما وفكرا وأدبا في بؤس لا يوصف، وتكون الروح الهائمة كطير يحوم حول منافذ الخلاص. الشاعرة نظيرة إسماعيل كريم بروحها الرقيقة الحالمة الهائمة سلطت أضواءها الشجية المتقدة على العتمة والرجاء، الكلمات والهناء، والذات والريح العاتية الهوجاء، زخم المدلولات الإيحائية والرموز الشعرية التي تكون عاملا مساعدا للوصول إلى المضمون لتجليات الواقع وتأثيره على الروح الهائمة والذات الجريحة، وإلى المكنون النصي الذي يرسم صورا شعرية ويرسلها مؤثرة في عوالم الإحساس والشعور والعواطف الراقية.

كنت روحا هائمة تتلظى في العتمة من شوق الرجاء أرسم بالكلمات مشاعر لم تحظ يوما بلحظة هناء وذاتي بحر عصفت أمواجه ريح غيرة عاتية هوجاء.

في بداية المقطع الشعري ترى “كنت” وكأن الشاعرة توحي بأن روحها كانت هائمة وكل الخطوب في هذا الهيام الروحي مضت وكانت في زمن مضى، وهذا إن كان حقا فهو تجلي ذو تأويلين، التأويل الأول مكنون الروح غير مدرك، أما التأويل الثاني فلا يمكن أن نضع حدودا للروح مهما كانت الصفات والمعاني المقارنة لها فكريا وحسيا وروحيا، فالروح في حركة وفعالية مستمرة مؤثرة سلبا أو إيجابا، وليست مقيدة في وصف معنى خاص مكورة على نفسها، فهي أعظم وأكبر من إدراكنا وحسنا ومشاعرنا.

تمكنت الشاعرة نظيرة إسماعيل كريم من توظيف حالة الروح الهائمة بشكل وصفي ورمزي جميل. نقف قليلا عند استهلال القصيدة، فالاستهلال في القصيدة يسير مع المضمون لا يحيد عنه، ويعتمد الاستهلال لغة بلاغية معينة تعين النص على التكوين، وبنية النص الشعري يحمل ذات البلاغة مع التردد الإلهامي في داخله، حتى لو اعتمد الاستهلال المبني على الجمالية أو الرمزية، على النص الشعري أن يوسع هذا البناء الحسي واللغوي إلى أن يكون النص في النهاية نصا متكاملا، ولا نستهين بالاستهلال باعتباره يحمل التألق المشع ويتناسب موقعه الأولي المهم في أول الكلام.

و”كنت” هنا لا تعني الماضي بتجرده، فالصورة الشعرية فعالة وديمومتها في وجودها وتأثيرها، ككائن له شخصيته التكوينية، فكل كلمة مهيأة للكلمة الأخرى لتشتد فيه وتقويه على مراحل النص التكويني، فالبداية مشحونة بالتأويل والتأثير كالتربة التي تحتضن الجذور.

الشاعرة نظيرة بموسيقاها الشعرية والإيحائية تجسد الحقيقة الداخلية للنص والذات، للإحساس والألم، والحقيقة الخارجية للواقع والمجتمع، بصيغة جميلة تلمس من خلالها شغاف القلوب الحالمة والأرواح الهائمة، والهيام إبحار بلا حدود وسفر بلا مسافات وغربة بلا اغتراب، هي لذة روحية تعكس ما مفقود، محاولة الحصول عليه، نوع من الألم واللذة.

أخال الحروف ملاذ ولم تكن سوى رسوما جامدة سوداء ولوعة الفؤاد فاض نهرها والساعات تعاند في خفاء فلا الحنين حراك لفؤادك ولا الليل الطويل في انقضاء.

الشاعر يعول على إدراكه للواقع، فهو جزء منه، مستعينا بالإثارة التي ربما تكون غير كافية، فكل إثارة شعرية يقترن معها كشف ما يجول في الروح والقلب والإحساس. يمكن رؤية نمط نفسي داخل نص شعري، وهذا ليس رد فعل مضاد للنرجسية، فالنرجسية تصبح فاعلة أكثر بالإيحاء، بالرمز، أو بالاستعاضة، فمحاولات الروح الهائمة التي أحبطتها الظروف الواقعية الخارجية مرآة لمكنونات الذات التي تزيد أفعال إرادتنا الحرة المكبوتة، والتي تنمي فينا وهم الإرادة الحرة، هذا الوهم الكبير الذي يجرنا شيئا فشيئا لليأس المميت مهما كان طول الصبر.

فالاحتواء الذاتي للوهم لا يكون بقدر الصبر، بل بقدر انعكاس ظل القمر المنير، بقدر تشبث الروح بالأمل والحياة والتواصل الجميل في لحظة اليأس المميت.

وصرخة الصبر في استياء ظل القمر بدرا يتوسط السماء ولثريا حوله تمده بالنور والضياء.

الشاعرة نظيرة لا تحاول لبس قناع، بل من خلال تجسيدها الشعري وصياغتها الراقية بلغة واضحة وجميلة، تتصرف بهدوء أعصاب وفكر متقد بالجمال والإحساس وعقل سليم مدرك للمكنونات الذاتية والروحية، حتى لو تجلت أطوار من العجز الروحي، فإنه يقاس بعلامات الرقي والجمال والاستقامة الروحية.

تنظر إلى تناقضات الواقع بأنها توكيد للذات، وهو اتزان غير مرئي بين الواقع ولا واقع، بين الحلم ولا حلم، بين الشوق والوصال، بين الروح والجسد، بين الروح والألم، فضلا عن ذلك تعكس استقلالية الروح الهائمة في الوصول إلى لحظة الدفء والوصال.

أدرت الطرف مبهورا لكل ذلك الجمال وروحي مشتاقة لدفء لحظة الوصال.

تمكنت الشاعرة المبدعة نظيرة إسماعيل كريم في الإبحار بين عوالم الروح الهائمة بصورة شعرية جميلة ليست معقدة، بل تذوي بين همساتها وبوحها المثير، بين أناتها وآهاتها وموسيقاها التي ترن بهدوء كصوت البحر عند صمت العالم.

قصيدة الروح الهائمة لوحة رومانسية إنسانية شاملة مهداة للأرواح الهائمة، وإعلان متقد مثير بالحب والجمال والإحساس الراقي والشجن المعنى، فهنيئا للأرواح إن كانت تبحر مثل هذه الروح.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

يقال إن الأمثال خلاصة الحكمة الشعبية، لكن هناك أمثال في تراثنا وتراث المنطقة باتت اليوم تحتاج إلى إعادة تدوير عاجلة… أو رميها في أقرب سلة مهملات، مع بقايا تصريحات بعض المسؤولين. مثال على ذلك: المثل “الذهبي” الذي يخرجه البعض من جيبهم بمجرد أن يسمعوا نقداً أو ملاحظة: “القافلة تسير والكلاب تنبح” كأداة جاهزة لإسكات…

شكري شيخ نبي (ş.ş.n)

توقف ؛

على رسلك في المدى

الافق سوار من اللظى

عويل الجوعى

نداءات و جعجعة

وغزة توشحت بالصدى ..!

 

توقف ؛

على هدي الهديل

فالشارات حمراء

من جفلة الجلنار وزحام القذى ..؟

و ..دع الأمير يمر

أمير من غزة

يقطع الشك في المدعى

من سخام الحياة

إلى نور السماوات في المرتجى ..؟

 

توقف ؛

عند هذيان حمى الصبر وأنتظر ..

انتظر..

امير الصبر

حتى اكتمل رغيف القمر ..!

قطعوا عليه سبل درب…

ماهين شيخاني.

في شمال الشرق، حيث نمت سنابل الحنطة إلى جانب أعمدة النفط، بنت القرى سورها بيديها، وزرعت فوقه أشجاراً تحرس الأطفال من شمس الصيف ورصاص الغرباء.

كانوا يقولون:

– لسنا ضد أحد… فقط نريد أن نعيش.

لكن في دمشق، تبدّلت الوجوه.

الوجوه القديمة غابت، وجاءت وجوه جديدة: لحى غريبة، لغات غريبة، عيون لا ترى في الخرائط إلا الحدود التي…

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن.

 

أيُّ ضياعٍ هذا…

زوبعةٌ من آلام الماضي،

تدور بي حتى تخلعَت جذوري من أرضي.

 

الماضي… عَلقَةٌ غامقةُ اللون،

تختبئُ ف ي تلافيف عقلي،

تتنفسُ من دمي،

وتتركُ في أعصابي طنينًا لا يصمت.

 

لا تُمهلني هدوءًا،

ولا تسمحُ لجفني أن يستسلما لنعاسٍ رحيم.

 

أقفُ أمام المرآة…

أحدّق في وجهي كأنني أبحث عن طفلٍ ضاع في داخلي،

طفلٍ بعينين غارقتين في الخوف،

يقف في زاوية الغرفة

يتجنّب نظرات…