فواز عبدي
يقال إن الأمثال خلاصة الحكمة الشعبية، لكن هناك أمثال في تراثنا وتراث المنطقة باتت اليوم تحتاج إلى إعادة تدوير عاجلة… أو رميها في أقرب سلة مهملات، مع بقايا تصريحات بعض المسؤولين. مثال على ذلك: المثل “الذهبي” الذي يخرجه البعض من جيبهم بمجرد أن يسمعوا نقداً أو ملاحظة: “القافلة تسير والكلاب تنبح” كأداة جاهزة لإسكات أي نقد، وكأنها بطاقة خروج من النقاش. لكن لو نظرنا حولنا في أيامنا هذه، سنكتشف أن المثل يحتاج تحديثاً جذرياً، وحتى يصبح أكثر واقعية لابد من أن نجد لها نسخة سريالية مقلوبة: “الكلب يسير… والقافلة تنبح”.
في هذه النسخة، الكلب ليس مجرد كلب، بل “قائد” أو “نجم” أو حتى “مؤثر في وسائل التواصل الاجتماعي”، يمشي على طريق مفروش بالمديح والتصفيق، يرتدي بدلة فاخرة وربطة عنق أنيقة بالإضافة إلى كاريزما مستعارة. بينما القافلة – المفترض أن تكون الجماعة الواعية – مزيج غريب من مجموعة إعلاميين، محررين، طلاب مناصب، وصوليين وجمهور مسحور تهرول خلفه، تتسابق في نباح الإطراء: “عبقري! فريد عصره! حتى طريقة تبوله مميزة!…” كما لم يعد النباح اعتراضاً أو تحذيراً، بل تصبح موسيقى تمجيدية لمسيرة الزعيم تُعزف بلا توقف.
هكذا تحوّل الإعلام –وضمنها الصحافة؛ السلطة الرابعة- من كلب لحراسة الديمقراطية/الحقيقة إلى كلب حراسة للصورة/الزعيم، وتحولت وظيفة القافلة من المضي نحو هدفها السامي، إلى المشاركة في مهرجان التصفيق الدائم، ورفع الشعارات وإطلاق الهتافات بصوت عال حتى تبح حناجرهم. لا أحد يسأل عن الاتجاه أو الوجهة، فهذا كله غير مهم. المهم أن السير يستمر وأن الكاميرات تلتقط اللقطات “التاريخية”.
وفي ختام هذا المشهد، لنتخيل لو وضعنا الفلاسفة الكبار أمام هذه الصورة:
في عالم أفلاطون – الذي يرى في كتابه “الجمهورية” أن الحكم يجب أن يكون بيد الفلاسفة، لأنهم وحدهم يسعون وراء الحقيقة، ويتحررون من الشهوات والمصالح الشخصية- المثل الأصلي قد يكون مقبولاً، فالزعيم الفيلسوف يمضي نحو الخير متجاهلاً الضجيج. لكن أمام مشهدنا المعكوس، حيث القافلة تنبح إعجاباً لا اعتراضاً، ربما سيُصاب أفلاطون بجلطة فلسفية، لأن الزعيم هنا ليس فيلسوفاً، بل مجرد كائن يتحرك وسط التصفيق.
أما نيتشه “الذي كان يحتقر الأخلاق التي تتبع الجماعة دون تفكير، وتُعْلي من قيم الطاعة والتواضع والامتثال والتي أسماها “أخلاق القطيع”، والزعيم الحقيقي بالنسبة له هو من يمتلك إرادة القوة ويتجاوز القيم التقليدية، ويخلق قيمه الخاصة” فقد يرى في الكلب السائر ملامح القوي المتفرد، لكن بشرط أن يكون خالقاً لقيمه، لا مجرد نجم يصفق له القطيع. أما القافلة النابحة إعجاباً، فهي بالنسبة له تجسيد صارخ لأخلاق القطيع التي رفضها بشدة. عندها كان سيقول:
“دع الكلب يسير، لكن إياك أن تكون من القافلة التي تنبح له.”
وأخيراً ربما نحتاج إلى قلب المزيد من الأمثال، فالعالم لم يعد كما كان. فربما نحتاج إلى قافلة تمضي بلا كلاب… لأن الطريق نحو الحقيقة لا يحتاج نباحاً من أي نوعٍ كان.”