الشاعرة هيفاء دوسكي وفارسة الشمس

 عصمت شاهين الدوسكي

كيف تكون المرأة ناضجة فكرياً ؟

صور لمواجهة الانكسار الذاتي والعاطفي 

الحداثة الشعرية لا بد منها، إذا كانت في اطوار متعددة، فهي تعاني الاصطدام ومواجهة الوعي الطبيعي، لما يدور من تجديد في النفس البشرية والعالم، او وعي سريع بجوانب عديدة تفرضه الاحداث المسرعة، في زمن اسرع.

وربما تعني الحداثة الشعرية التعامل الجديد مع اجواء الحضارة المدنية والمجتمع، باطار خيالي، الذي ينتج منه مشاعر حيوية، ونشاط في العواطف الراقية. وقد تكون حاجة ملحة لقربها من الانسان، بتفاعل كبير بينه وبين ما يحيط به.

وهناك جوانب اخرى للحداثة الشعرية، كثورة على التقاليد البالية واستخدام صور مضادة لها، تكون اكثر ذكاء من التقاليد، باعتمادها على الاحساس الصادق والمشاعر المترابطة، وابراز الآلام والانتكاسات والمعاناة التي تنتجها تلك التقاليد.

الشاعرة هيفاء دو سكي لا تطيق الا ان تكون ضمن هذه الحداثة التي ولدت بقوى ادبية مختلفة، بلغت ذروتها في امكنة وازمنة مختلفة، ان كان او قصيرا، فهي اعصار آخر تقف بوجه (اعاصير العشق) بمقدورها ان تجثم على (قمم المحبة).

الشاعرة مكوثها طويلا هيفاء دو سكي، تستهل قصيدتها “لا تدعوني انثى” بـ(لم اطيق) كأنها ذاقت ذرعا قاسيا من الاوجاع والتراكمات الزمنية. صورة لمواجهة الانكسار الذاتي والعاطفي:

(لم اعد اطيق مع اعاصير العشق ان ألحم الكلمات على قنوات هوامشك، لا تدعوني انثى، لانه بمقدوري ان اجثم على قمم المحبة).

هذه الصور الشعرية المصرة على قمم المحبة، حتى لو تجردت قليلا (انثى)، ليس من كينونتها الطبيعية، بل بإنكارها زادت الانوثة اصرارا على التغيير والتجديد للوصول الى قمم المحبة، بل رمز تحدي جميل لتكوين قدر جديد، من الحب والامل والحياة.

ان الحداثة الشعرية عليها ان لا تسيء الى التراث والموروث الراقي، كالتراث الواقعي والرومانسي والجمالي وغيره، بل يجب ان يعد تطورا جديدا منعشا لذلك التراث واحياء له بأي شكل ومضمون حديث.

الشاعرة هيفاء دو سكي تنعش اجنحة الخوف بتجلي ملامحه الظاهرة والضمنية، وفي نفس الوقت ترفض وجوده (لا اطيق). فمشاعر الخوف لا تعني شيئا مهما كان وجوده وجبروته امام (فارسة الشمس). فالشمس تمحي ظلام الخوف واضطراب الفكر، وتضعف جوهره الوجودي، رغم ان مفاهيم الخوف عديدة لا تحددها سوى تلك الاطر الانسانية العميقة التي تختلج في افكار وهواجس الوعي واللاوعي.

ومهما كانت، فهي واهنة امام نور الشمس المشرقة، التي تذوي في مسامات الجسد الفكري والعاطفي والحسي:

(لا اطيق ان اقبل على اجنحة الخوف، لاني فارسة الشمس).

فهي صور من التحدي الذي يختلف من امرأة الى اخرى، ومن زمن الى زمن آخر، ومن مكان الى مكان آخر. فهو في نفس الوقت نشاط نقدي حديث لإضاءة الفكرة وتنويرها، لتتجاوز الملل النفسي، والركود الاجباري، والفكر الاجتماعي المتسلط، واستكشاف الحركة الانثوية الفنية، في عصر لا يقيده قوانين مظلمة ولا تقاليد سوداء تحيد من قوة الانثى.

والانثى هنا ان جاءت كرمز، فهو رمز قوي، سحري، يؤكد الطابع الانثوي المحلي الاصيل خاصة والعالمي عموما، وليس ضعيفا كما يدعي البعض. فوجودها فعال، حيوي، للنص الشعري والحياتي، الذي يغطي مساحات زمنية واسعة، مساحات تمتد لعمق التاريخ ولبداية الحضارة.

فنـشوء الانثى وتطورها وانفجارها امام الظلم والقسوة والمعاناة والقيود والافكار السوداء، كأنها سلعة تباع وتشترى، نتيجة (افكار جوفاء) او انثى داعرة نتيجة الظلم والفقر الاسود الكئيب الذي لا يعي ولا يعيل:

(لا اقدر ان اقبل وجه كئيب في ثنايا خصلات شعر الليل بافكار جوفاء).

اتعلم في عالم بلا حدود ان مفهوم المرأة بمشاعرها وافكارها وكيانها في الاطر الشعرية الحديثة، لا يختلف من بعيد او قريب عن الاشارة الى وضعها الحياتي، الفكري، الوجودي، الحسي، وفرض الحقيقة الانثوية لمن يود معرفة الانثى في الادب الرومانسي والادب الثوري النقدي، وهو جزء من تطور الانثى في الحياة الحرة الكريمة.

نلاحظ استخدام الشاعرة هيفاء دو سكي لاءات عديدة دلالة على الرفض والتمرد والانفجار الداخلي، ومنها هذه اللاءات (لا تدعوني انثى – لا اطيق – لا اقدر) التي تعكس فكر المرأة الحديث، ونشاطها الحقيقي في المسيرة الكيانية والفعليـة والوجودية، التي تشهد على مر الزمن تقلبات الافكار السوداء والجهل القاتل، والفقر المدقع، رغم مظاهر التطور والحداثة والتغيير والتجديد المستمر في العالم.

ان تسليط الضوء على الحداثة الشعرية الانثوية، يؤذن بميلاد فكر خلاق، واع، جميل، نتعرف من خلاله الى المغامرة الانثوية الحديثة، المسؤولة عن كشف الحقيقة الانسانية مع المتغيرات الحضارية، وتنتقي منها لحظات حسية وفكرية من صور الواقع، لتجعلها نقطة بداية للتغيير الكبير في الطبيعة البشرية.

فقد تغيرت العلاقات عموما بين الغني والفقير، بين الحاكم والمحكوم، بين السلطان والرعية، بين الزوج والزوجة، بين الابن وابيه. فعندما تتغير العلاقات الانسانية، لابد ان يتبع ذلك تغير في الفكر والنظرة الى المجتمع والدين والقيم والاخلاق والسياسة والادب.

وهنا لا بد ان يكون دور المرأة في كل المجالات الارشادية والتعبوية المؤثرة قويا، نشطا، فاعلا، حيويا، مؤثرا، في توجيه المجتمع وامكانية اصلاحه بقدر ما، بدلا من الخنوع والركود والسكون والخمول، لتقول للآخر بيأس: لقد انتهى العالم.

الشاعرة هيفاء دو سكي رفضت اليأس والضعف، بل قدمت للعالم كيف تكون المرأة ناضجة فكريا باسلوب شعري حديث جميل، لتعلن ان الانثى بمقدورها ان تكون فارسة الشمس.

================

هيفاء دو سكي ولدت عام 1982 في قرية بروشكي في محافظة دهوك كوردستان. تعود بدايتها الشعرية الى عام 1996، ومنذ عام 2003 تنشر انتاجها الشعري بكثافة في الصحف والمجلات الكوردية في كوردستان. ومنذ عام 2003 تنشر في المجال الصحفي، ولها نتاج جم منشور في الصحف والمجلات منها “جافدير ره سهن، بهدينان، مجلة زاخو، مجلة سيلاف” وصحف ومجلات اخرى.

تعمل حاليا مراسلة صحفية في جريدة “ئه فرو” والتي تصدر في محافظة دهوك. شاركت في العديد من المهرجانات والمسابقات الشعرية. عضوة جمعية الشعراء الشباب في دهوك.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…