نوري ديرسمي: رجل ديرسم الذي لم يمت في الذاكرة

ماهين شيخاني

لم يكن نوري ديرسمي مجرّد طبيب بيطري، ولا ثائراً حمل السلاح ثم طواه النسيان؛ كان ذاكرة حيّة تمشي بين الناس، شاهدة على جراح ديرسم وكوردستان، ورمزاً لمقاومةٍ لم يُطفئها الموت ولا المنفى. وُلِد عام 1894 في قرية “أخزونيك” التابعة لولاية ديرسم، لأسرة بسيطة من عشيرة ملان الكردية. فقد أمه صغيراً، فربّاه عمه، وكبر بين الحقول والجبال، حيث تعلّم منذ طفولته أن الأرض أوفى من البشر أحياناً.

طفولة تبحث عن معنى

بدأ دراسته في بلدة “هوزات”، ثم تابع الإعدادية في خاربوط، وهناك انكشفت ميوله القومية وهو ما يزال يافعاً، فانضم مع رفاقه جعفر وقهرمان وحيدر تيمور باشا لتأسيس “اتحاد طلبة كوردستان”. كان قلبه أكبر من عمره، وعقله يسبق زمنه، كأنما وُلد ليكون جسرًا بين الوعي والتمرّد.

أيام إسطنبول والخيارات الصعبة

هاجر مع والده إلى إسطنبول عام 1911 ليدرس الطب البيطري. لكن الحرب العالمية الأولى قطعت الطريق على أحلام الطلبة، وحوّلتهم إلى جنود على جبهة أذربيجان. هناك لم ينسَ هويته، فحاول إقناع الكورد بعدم القتال تحت راية العثمانيين. أثارت مواقفه غضب القادة، فنفوه إلى البحر الأسود لإبعاده عن الكورد. ومع ذلك عاد بعد الحرب ليكمل دراسته ويتخرّج طبيباً بيطرياً، لكن في داخله كان طبيباً آخر، يُداوي ذاكرة أمّة تنزف.

كوجكيري: رصاص الثورة وامتحان الوفاء

تزوّج ابنة حاجي آغا، أحد وجهاء ديرسم، وانضم إلى جمعية “تعالي وترقي كوردستان”. في التحضير لانتفاضة كوجكيري، نجح في تأمين 1500 بندقية وزّعها على الثوار. حين حاول مصطفى كمال (أتاتورك) استمالته إلى صفوفه، رفض اللقاء به، فكان السجن نصيبه. لكنه أفلت، وعاد إلى رفاقه ليشارك في الانتفاضة. وبعد فشلها صدر بحقه حكم الإعدام عام 1921، إلا أنه احتمى بجبال ديرسم التي لم تعرف الانحناء.

ديرسم: حين امتزجت النار بالدم

في الثلاثينيات، ومع اقتراب ساعة ديرسم الكبرى، كلّفه سيد رضا بالتواصل مع العشائر وتعبئة الناس. لم يكن خطيباً فحسب، بل معلّماً للغتهم الأم، ومبشّراً بكرامتهم. وحين اندلعت الانتفاضة، خسر ابنه الوحيد “علي” شهيداً تحت القصف التركي، لكنه واصل القتال بقلبٍ مثقوب. وحين قرر سيد رضا إرساله للخارج لفضح جرائم الإبادة، انتهى به المطاف في سوريا عام 1937، بعد رحلة مضنية عبر المنفى والخذلان.

في المنفى: الكتابة بدل البندقية

في حلب، لم يضع البندقية جانباً، بل حوّلها إلى قلم. ألّف كتابه الشهير “ديرسم في تاريخ كردستان” (1952)، كوثيقة دامغة على الجرائم العثمانية والتركية. أسس عام 1956 “جمعية المعرفة والتعاون الكوردي” مع حسن هشيار وروشن بدرخان وآخرين، لتكون منبراً للغة والتاريخ والأدب الكوردي. عاش لاجئاً، لكنه كان سيّداً في ذاكرة شعبه.

الموت ووصية العائد إلى الأرض

رحل نوري ديرسمي في حلب عام 1973، وقد بلغ 81 عاماً. أعد قبره مسبقاً مع زوجته فريدة، وأوصى أن يُدفن وفي رأسه حفنة من تراب ديرسم، وأن يمر موكب جنازته أمام القنصلية التركية في المدينة، كأنها صرخة أخيرة في وجه جلاده. بعد رحيله بسنوات، دنّس الاحتلال التركي ضريحه في مقبرة “زيارة حنان” بعفرين -حلب، محاولاً اغتياله مرة ثانية. لكن القبور لا تُخيف الذاكرة، والذاكرة لا تُهزم بالرصاص.

الخاتمة: رجل بقي حياً

قد يظن البعض أن نوري ديرسمي انتهى مع غبار قبره، لكن الحقيقة أن اسمه صار واحداً من تلك العلامات التي لا يطالها النسيان. رجلٌ عاش بين الطب والثورة والمنفى، وختم حياته بوصية تحوّلت إلى رمز: أن يظل حاضراً في ذاكرة الكورد، لا كصورة باهتة في كتاب، بل كجرسٍ يدقّ كلما نسي الناس أن الحرية تُولد دائمًا من رحم التضحية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماف خالد محمد

النظرة مسبار الروح وكنهها، عندما تمل الأرواح أجسادها المنهكة نغادرها على عجل لتحل في أخرى.”

رواية كهرمان عمل سردي يمتد عبر أجيال متعاقبة ليكشف التراجيديات التي عاشها الأرمن والكُرد على السواء، وليمزج بين الحكاية الفردية والذاكرة الجمعية.

نالين وبداية الحكاية:

تنطلق القصة مع نالين الفتاة المتمردة التي لا تشبه إخوتها، ذات يوم تعود أمها إلى البيت…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

أدَبُ الرُّعْبِ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ يَهْدِفُ بواسطة مَجموعة مِنَ الأحداثِ المُتشابِكةِ والمَواضيعِ المُثيرةِ وَالمُفَاجآتِ الصَّادمةِ، إلى إثارةِ مَشاعرِ الخَوْفِ والرَّهْبَةِ لَدَى القارئِ مِنْ خِلال قِصَص عَن الأشباحِ ، أوْ مَصَّاصِي الدِّمَاءِ ، أو الكائناتِ الغريبة ، أو العناصر الخارقة للطبيعة ، أو القُوى الشِّريرة ، أو الأحداث العنيفة المُرَوِّعَة…

غريب ملا زلال

احمد كرنو من الاسماء القليلة التي تعتبر اعمالهم صندوقهم الاسود، ففيها ستجد كل ما يخص كرنو، من حنينه المشبع بالشوق للمكان الذي بات وجعا يوخز الذاكرة المتعبة بدورها مما تحمله من حزن وفرح، الى فيضان احاسيسه العذبة بسبب ما يحمله من روح تئن كثيرا تحت وطاة الهوة المؤسفة للنوافذ…

إبراهيم اليوسف

تنبثق بطاقات الصباح من عادة باتت أقرب إلى طقس داخلي، إذ يفتح أحدنا عينيه على وعد صغير في صورة أو خاطرة أو قصيدة، ويرسلها إلى صديق يعرف أن من شأن هذه اللفتة أن تضيء يومه. وحقيقة، إن ما تبدو عليه البطاقة- أياً كان نوعها- من بساطة لا يلغي أنها شريان خفي يصل بين المرسل…