إبراهيم اليوسف
تنبثق بطاقات الصباح من عادة باتت أقرب إلى طقس داخلي، إذ يفتح أحدنا عينيه على وعد صغير في صورة أو خاطرة أو قصيدة، ويرسلها إلى صديق يعرف أن من شأن هذه اللفتة أن تضيء يومه. وحقيقة، إن ما تبدو عليه البطاقة- أياً كان نوعها- من بساطة لا يلغي أنها شريان خفي يصل بين المرسل والمتلقي، حيث لا شيء يعلو على فعلٍ يومي يُقاوم وحشة المنافي. وليس الأمر مجرد إرسال كلمات على شاشة، بل هو تجسيد لإصرار الروح على بناء جسر في وجه الانقطاع.
مؤمد أن الأسماء من لدن أي منا، تُختار، بعناية، لا لأنها كثيرة حولنا، وهي كثيرة حقاً، بل لأننا نبحث عمن يقابلون المبادرة بمثلها، فتغدو العلاقة تبادلاً صادقاً لا فرضاً. أجل، قد تصل البطاقة في لحظة حزن، فيستقبلها الصديق وهو غارق في انشغاله أو ضيقه، لكن هذا لا يقلل من قيمتها، إذ إن وجودها في هاتفه أو ذاكرته يعادل سنداً ضد الوحدة. هكذا تتحول البطاقة إلى شاهد على صلةٍ لا ينال منها غبار البعد.
منذ عقد ونصف- في أقل تقدير- باتت رسائل الصباح تنبض بصور الورد، أو بضحكات الأطفال، أو القطا، أو بسطح، أو تموجات نهرٍ يلمع تحت ضوء القمر أو الشمس، أو ببحرٍ يعانق سفناً، أو بجبلٍ يصمد في الأفق. إذ لا تُفرض ولا تتكرر صورة محددة، من قبل أحد، بل تتبدل البطاقات وفق ما يراه المرسل بعينه في استهلالة الصباح. كي يكتب أحدنا مرة “ما أجمل الورد”، وأن يلتقط أخرى صورة ورقة خضراء، فيترك للمتلقي حرية أن يقرأ المعنى الذي يناسبه.
إذ لا يمكن إغفال أمر واضح، ألا وهو أن التكنولوجيا منحت هذه البطاقات بعداً آخر، حيث يسرت وسائل التواصل مهمة إرسالها بسرعة، وجعلت من الممكن أن يرسل أحدنا أو يتلقى آلاف البطاقات في لحظة واحدة. بل صار في وسع المرسل أن يوجّه آلاف البطاقات ضمن مجرد مجموعة أو رسالة واحدة، كما يسّرت تشكيل مجموعات واسعة يجتمع فيها الأصدقاء حول رسالة صباحية مشتركة. أجل، هذا التيسير عمّق الأثر وأعطى المبادرة طابعاً توثيقياً يضاعف من قوة الصلة، إنما في الوقت نفسه ولّد فيضاً من الرسائل التي تغرق الهاتف أحياناً، بحيث قد يفوت الاطلاع على بعضها، أو تذوب الردود المتراكمة فلا يظهر منها إلا ضجيج متتابع يحجب وقع الرسالة الأصلية وسط الزحام.
كما إن البطاقات لا تُرسل بوتيرة واحدة للجميع، إذ تراعي ذائقة وطبيعة كل صديق، على حدة. إذ هناك من يبادلك البطاقات في يوم الجمعة، وهناك من يبادلك إياها في عيد ديني، وهناك من يبادلك إياها يومياً، وذلك حرصاً على ألا تتحول المبادرة إلى إزعاج، بل إلى ما يحقق هدفها الأول: إدخال الفرح. ومن هنا، فإن البطاقة اليومية- أية كانت- تبقى هي الأكثر غبطة وسيرورة حياة، لأنها بمثابة طرق خفيف على نافذة الروح، في مطلع كل صباح، تذكيراً بأن الغياب لم يجهز على الذاكرة والتاريخ.
وهكذا فإننا نجد أن الغياب المفاجئ لردود أحد الأصدقاء يوقظ القلق، كما حدث مع إبراهيم محمود. إذ إنه لم يرد علي منذ أسبوع وهو ونبيل سليمان من أوائل من أرسلوا إلى مثل هذه البطاقات منذ حوالي خمسة عشر عاماً، حتى وردتني رسالة صوتية من ذويه، في قامشلي، بتوجيه منه، يوم أمس:
إبراهيم مريض وتم إسعافه وهو في العناية المشددة منذ ثلاثة أيام
إبراهيم تجاوز الأزمة الصحية
إبراهيم بين أسرته وهو بخير الآن
من هنا فإنه يغدو للبطاقة معنى آخر، فهي لم تعد مجرد عادة صباحية، أو صك توقيع صباحي بين صديقين، أو حبيبين أو أفراد أسرة ومجتمع وبلد ووطن، بل صارت مرآة لإرث من الود والذكريات والمراسلات، ومؤشراً على ما يجري في الضفة الأخرى من الشتات. البطاقة إذن لا تعكس مزاج المرسل وحده، بل تترصد نبض المتلقي أيضاً، وتكشف حين يغيب عن عادته.
وهكذا تستحيل البطاقة إلى فعل مقاومة ضد الشتات، إذ تحافظ على دفء لا يفسده البعد. فحين يتسارع الزمن ويزداد التفكك، تصبح الكلمة أو البطاقة الصباحية وثيقة عاطفية تُبقي الأهل والأحبة والأصدقاء في حلقة وصل، ولو تفرقت بهم المنافي. إنما سرّها ليس في طولها ولا في زينة عباراتها، بل في صدقها، وبراءتها، وعفويتها، في كونها دليلاً أن هناك من يفتح يومه على الآخر، ويريد له أن يبدأ نهاره محاطاً بألق من العاطفة.
يتبع…..