بو مدين… واسم أمي الضائع

ماهين شيخاني

كانت أمي، البسيطة مثل خبز التنور، تسمع الأسماء الكبيرة عبر إذاعة ترسل أخبارها من وراء البحار. ذات يوم، التقطت أذناها اسمًا بدا لها مهيباً: هواري بومدين. لم تكن تعرف من هو الرجل، ولا ماذا يعني أن يكون رئيساً لبلد بعيد اسمه الجزائر. لكنها عرفت شيئاً واحداً: أن جاراتها سيتعجبن، وربما يغتبطن، إن كان ابنها الوحيد يحمل اسم رئيس دولة. أرادت أن تناديني “بومدين”، كي تفاخر بين الجارات.

كنت طفلاً صغيراً، لم أدرك السياسة ولا المؤامرات، لكنني رفضت الاسم بفطرة لم أفهمها. فضّلت أن أبقى “أبو جورج” بين رفاقي في المدرسة، لقباً عابراً لا يحمل وزر التاريخ. ولم أكن أعرف أنني بذلك نجوت من لعنة اسمٍ كان سيطاردني.

مرت السنوات، وحين وصلت الصف الحادي عشر وبدأت أتعرف على قضيتي الكوردية، اكتشفت أن “بومدين” الذي أرادت أمي أن تخلّد اسمه على جبيني، لم يكن سوى واحد من الذين باعوا كوردستان. هو من وقف بين الشاه وصدام المقبور، ووقّع معهم اتفاق الجزائر عام 1975، الاتفاق الذي أسقط ثورتنا، وألقى بجيل كامل في المنفى والهزيمة.

آه يا أمي…

لو كنت تعلمين أن الرجل الذي حسبتِ اسمه “هواري” كلمة كورديّة، لم يكن سوى محمد آخر، يبدّل الأسماء كما يبدّل معاطفه. حتى زوجته غيّر اسمها لتناسب صورته أمام الجماهير. رجل حوّل الجزائر إلى دولة معرّبة بالقوة، مسح اللغة الأمازيغية من الشوارع، وفرض هوية واحدة على البشر والحجر.

هو نفسه الذي شبّه كوردستان بـ”إسرائيل جديدة” أمام الرئيس الأميركي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر. مثلما فعل محمد طلب هلال عندنا، حين كتب تقريره العنصري ليقول إن الكورد “خطر” يجب محوه. وكأن الطغاة يتوارثون القاموس ذاته.

لم أحمل اسم بومدين، بل اخترت لاحقاً أن أُدعى أبو آزاد. كان اختياري تمرداً صغيراً على قدر الأسماء. آزاد لا يحتاج إلى ترجمة، آزاد يعني الحرية. الحرية التي لا يُمكن لأي رئيس، ولا لأي مؤامرة، أن تمحوها.

آه يا أمي…

الاسم الذي أردتِ أن تهديني إياه كان خنجراً، وأنا اخترت بدلاً منه شمعة. شمعة الحرية، التي لا يطفئها كل بومدين، ولا كل صدام، ولا كل كيسنجر.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…