البنية المزدوجة في نص زكريا شيخ أحمد من النَفَس الملحمي إلى الومضة المدهشة

إبراهيم اليوسف

مقاربة نقدية أُولى!

مدخل نظري

بدهي أن النص الشعري الذي ينجح في إعادة ترتيب الكينونة لا يقف عند حدود الزخرف أو المهارة التقنية، بل يتحول إلى مختبر تلتقي فيه الذاكرة بالمحو، ويختبر فيه الوجدان قدرته على ترميم نفسه أمام جدار الانكسار. في هذا المستوى، يصبح الشعر أداة فعل لا أداة وصف، ومساحة لتجريب حدود اللغة في مواجهة العطب الذي خلّفته الانكسارات، لاسيما إن الوظيفة الجمالية المنفصلة عن سياقها تتراجع لصالح جمالية مشروطة بالفعل التاريخي والنفسي، حيث تُنتزع المفردة من برود القاموس لتستعيد حرارتها في سياق مقاوم.

تجربة زكريا شيخ أحمد تؤكد هذا الانخراط المباشر في قلب الجرح، لا من موقع المراقبة، بل من خلال معايشة تنسج النص من ألياف الذاكرة والواقع. الهوية في نصه ليست انتماءً جغرافيًا أو إثنيًا وحسب، بل شبكة من الروابط الممزقة التي يحاول وصلها عبر بناء لغوي لا يهادن. مناطق الالتباس التي يكتب منها تتيح للبلاغة في أحد تجلياتها- غير المبالغ فيها- أن تتجاور مع القلق الروحي، وللأثر المادي في حالة تتبعه وقع الخطى أن يتقاطع مع الحلم، فلا يستدعي المكان كصورة جامدة، بل ككائن له نبضه وذاكرته الخاصة.

بهذا البناء، تتحرك القصيدة على مستويين متوازيين: امتداد يبطىء الزمن ويحيط المكان بهالة من الديمومة، وومضة مكثفة تختزن اللحظة في رمز قادر على إشعال الذاكرة. هذا التداخل بين النَفَس الملحمي والنَفَس الومضي يمنح النص بعض ملامحه وخصوصيته، ويجعله مفتوحًا على قراءات متباينة: قراءة ترى في الامتداد احتفاء بالمكان كملاذ، وأخرى ترى في التكثيف اختزالًا للذاكرة في علامات قابلة للاستدعاء الفوري.

عن المكان والشاعر

 عفرين كجغرافيا للغُصة والقصيدة كأداة استبصار

ليست عفرين مجرد جغرافيا تقع شمال غرب سوريا، بل هي واحدة من أكثر المناطق الكردية التي تم اختزالها إلى صمت قسري، بفعل الاحتلال التركي منذ عام 2018، وما تبعه من محوٍ منهجي للهوية الثقافية والديموغرافية. إنها مدينةٌ يُعاد تشكيلها بالقوة، على حساب ذاكرتها، وسكانها، وملامحها الأصلية. في هذا السياق، لا تكتب القصيدة الكردية من موقع بعيد، بل من تماسّ مباشر مع هذا المحو، ومن محيط مُثقَل بفقد المعنى.

زكريا شيخ أحمد، ابن هذه الجغرافيا المقتلعة، ضمن حدود لحظة زمنية، لا يكتب عن عفرين بوصفها مشهدًا خارجيًا، بل يكتبها من الداخل، رغم مسافات الشتات.  إنه يكتبها من الفقد اليومي، ومن ذاكرة تتعرض لاجتثاث مزدوج: جغرافي ولغوي. قصيدته ليست تعبيرًا عما حدث فحسب، بل انخراط فيما لا يزال يحدث: إنها تمسك بلحظة الخراب لا لتصفها، بل لتسائل أثرها الرمزي على الكينونة.

لكل هذا فإن زكريا شيخ أحمد شاعر لا يتوسل البطولة، ولا يركن إلى الشعار، بل يمارس أقسى أشكال المواجهة: الكتابة المتأملة، التي تعيد تشكيل المأساة لا كواقعة سياسية فقط، بل كجرح في اللغة، وتصدّع في الهوية. في قصائده، لا تُروى عفرين بصوت خارجي، بل تتكلم عبر زيتونها، ومطرها، ونهرها، وأعالي جبالها، وهدير نهرها، وصمت أعينها، كمحطة جسرية بين محطات انقطعت بها وشائج التواصل. إنها قصائد تكتب من قلب الخسارة الفادحة. الخسارة المؤقتة، لأنها لا تستسلم لها، بل تحوّله انكساراتها وخسائرها إلى فضاء تأملي، حيث تتحوّل الشجرة إلى كائن يتذكر، والمطر إلى مرآة للمنفى، والكلمة إلى ملاذ أخير لذاكرة تقاوم النسيان.

الذاكرة المقموعة والهوية المتشظية في فضاءي نصين متكاملين

 

 يعمد زكريا شيخ أحمد في نص عفرين… قصيدة الأرض المنهوبة، إلى تأطير المكان ضمن أفق أسطوري مقاوم، حيث لا تكون عفرين مجرد مدينة منكوبة، بل كائنًا متعاليًا على الجغرافيا والتاريخ، متشبثًا بقدسية لا تنكسر. نقرأ:

ولا تُطفأ الذاكرةُ
إن خُطّت على جذوعِ الزيتونْ

واضح للقارىء النبيه أن الذاكرة تتحول هنا من نتاج تجربة إنسانية إلى أثر طبيعي ديمومي، يتماهى فيه التراب أو الحجارة مع لوعة الحرقة إلى المكان. هذا الإصرار على الديمومة ينزع النص من واقعيته، ليؤسطر المكان ذاته، ويمنحه دفقات شعورية في وجه المحو. أجل. إننا أمام شعرية تقوم على بطانة وجدانية مكتظة، تُعلّي من شأن الصمود، لكنها تنزاح عن تفكيك الذات المتشظية، لتتجه نحو ترميزها على هيئة جبل لا ينهار، أو دعاء لا يُغلب.

في المقابل، ينحو نص العودة تمشي في دمنا إلى بنية أقرب إلى القصيدة الومضة، لا من حيث الطول فقط، بل من حيث وحدة الهاجس: الرسالة. القصيدة تتحرك في فضاء مباشر، سريع، لكنه مشبع بنداء وظيفي يتجاوز الحفر في الداخل، ويذهب مباشرة إلى التعبئة الوجدانية:

هُجّروا…
لكنهم حملوا عفرينَ معهم
في ملحِ الخبز
في أسماءِ البنات
وفي وشمِ الجبالِ على الأكفّ.

هذا المقطع يشكّل نموذجًا للكتابة التي تختزل التجربة في سلسلة علامات قابلة للتكرار والاسترجاع، حيث يستعاض عن التفصيل التأملي بمجموعة من الصور الدالة والرموز الحيّة. الذات هنا ليست باحثة عن معنى، بل مستنفَرة من أجل استعادة ما فُقِد. لا سؤال يُطرح، بل تأكيد يُعلن. وفي هذا ما يشبه شعريّة الومضة الموجّهة، التي تتنازل عن غموض الشعر لصالح وضوح الرسالة.

ما يتبدّى من خلال النصين هو هذا التفاوت البنيوي والدلالي بين نَفَس طويل يسعى إلى ميثولوجيا المكان والهوية، ونَفَس قصير يؤطّر الفقد ضمن خطاب العودة. في الحالتين، ثمة غياب لما يميز التجربة المعروفة عن زكريا شيخ أحمد: توتر المفردة، اقتصاد اللغة، تفتت الذات بين الأصوات والأشياء، والكتابة من موضع التباس لا منبر وضوح.

وهنا، يُطرح السؤال مجددًا: هل النصان منسجمان مع المشروع الجمالي للشاعر المعروف بتمرده على الخطابية، وابتعاده عن النداء المباشر؟ أم أننا إزاء نمطين كتابيين يختلفان جوهريًا، ضمن تجربة واحدة، وتجريب مفتوح: الأول يُؤسطر الجرح، والثاني يُفككه همسًا؟

الذاكرة كفعل مضاد للمحو

إذا كانت الهوية لا تُبنى من الجمود، بل من الحوار مع السيرورة، فإن نص زكريا شيخ أحمد يمارس هذه البنائية عبر استحضار العناصر التي يُراد لها أن تُنسى: الشجرة، العصفور، المطر، القبر، الحب، واللغة الأولى. كل هذه المفردات تتحول إلى علامات مقاومة ضد المحو الرمزي الذي تمارسه القوة النافية، سواء أكانت عسكرية، سياسية، أو ثقافية.

لكنّ النصين المُلحقين- أدناه كمجرد أنموذجين- يُعيدان تشكيل هذه العناصر بطريقة مغايرة: يرفعانها من مساحة الرمزي إلى صدارة التقريري، ويقدّمان الذاكرة لا كمجال تأملي، بل كصورة مكتملة، نهائية، مطلقة. من هنا، يمكن التساؤل: هل هما بالفعل من تجربة زكريا الشعرية، أم يمثلان محاولة لكتابة قريبة من قضيته، لكنها بعيدة عن أدواته؟

وهكذا، فإننا نرى أنه بين الامتداد الذي يعيد صياغة الجرح ككيان يعلو على النسيان، والومضة التي تكتفي بإشارة قادرة على إعادة إشعال الحنين، تتوزع طاقة النص الشعري لدى زكريا شيخ أحمد. رغم أن الأمر ليس مفاضلة بين أسلوبين، بل هو تعبير عن ازدواجية ضرورية في لحظة تاريخية تتطلب خطابًا يحفظ الذاكرة من التلاشي، وفي الوقت ذاته يتيح لها أن تكون قابلة للتداول السريع بين المنفيين والمقموعين. حيث، لا تظل عفرين مجرد مسرح للألم، بل إنها تتحول في النص إلى مختبر لغوي ووجداني، تتفاعل فيه طبقات الهوية، ويتجدد فيه سؤال الانتماء مع كل سطر يُكتب، وكأن القصيدة هنا ليست غاية في ذاتها، بل وعدٌ بالعودة يتجسد في بنية اللغة ذاتها.

الهوامش:

¹ زكريا شيخ أحمد، العين التي في الزيتونة.
² زكريا شيخ أحمد، المطر.

 

ملحق: النصان الشعريان

 

1-عفرين… قصيدة الأرض المنهوبة

 

عفرينُ… يا وردةً نبتتْ  

فوقَ الجراحِ ونامتْ في عيونِ النارْ  

يا نَفَسَ الزيتونِ إن اشتدَّ  

خنقُ الحنينِ، وصمتُ الأوتارْ

 

يا سيدةَ الجبلِ الباسقِ

حين يميلُ على كتفيكِ الزمانُ  

وتبقينَ واقفةً  

كأنكِ دعاءٌ يُصلي لهُ الغيمُ والأمطارْ

 

كم مرّت عليكِ الجيوشُ 

فانكسرتْ سيوفُ العابرينْ  

وكم حاولوا سلخَ اسمِكِ عن وجدانِ التراب

فما نطقَ الحصى إلا: أنا كورديٌ… من عفرين… أنا كورديٌ من كوردستان. 

 

قالوا: ستهوينَ…  

قلنا: لا تهوي الجبالُ إذا سكنتْ في القلبِ  

ولا تُطفأ الذاكرةُ  

إن خُطّت على جذوعِ الزيتونْ

 

أرادوا أن يخنقوا فيكِ الصوتْ  

أن يزرعوا في فمِكِ حجراً  

وفي رُوحِكَ سوراً من نارْ  

لكنهم نسوا…  

أنكِ حين تصمتينَ

تتكلمُ الأرضُ ويتكلمُ الحجرْ  

وينطقُ الغصنُ في وجهِ الريح:  

هنا عفرين، لا تزولُ ولا تنكسرْ

 

فيكِ الدمُ يسيرُ كأنشودةْ  

وفيكِ الموتُ… لا يُرهبُ الحياةْ  

فكلُّ بيتٍ هجّروه  

تركَ خلفه دعاءَ أمٍّ 

ورائحةَ الخبزِ 

وظِلَّ مقاتلٍ علّقَ عينيه على الغيمِ ومضى.

 

يا عفرينُ…  

أيتها الشاهدةُ على خيانةِ العالمْ  

ما غبتِ، بل تواريتِ  

في ذاكرةِ اللهِ، كي تعودي أطهرَ 

وأقوى، وأبهى.

 

2- العودة تمشي في دمنا

 

قد هُجّروا…  

وتركوا خلفَهم المفاتيحَ معلّقةً  

على أبوابٍ

لا تزالُ ترتجفُ كلّما ناداها اسمٌ منفيٌّ 

 

خرجوا…  

والأرضُ ما زالت تحتفظُ بخطى النِسوة 

وبضحكةِ طفلٍ سقطَ من حقيبةِ المدرسة  

قبل أن يسقطَ في النسيان.

هُجّروا…  

لكنهم حملوا عفرينَ معهم  

في ملحِ الخبز  

في أسماءِ البنات 

وفي وشمِ الجبالِ على الأكفّ.

 

قالوا لنا   

انسوها…  

فقلنا: وهل تُنسى أمٌّ؟  

وهل يمّحى جبلٌ من الذاكرةِ  

لأنه سُرقَ من الخارطة؟

نحن لا نكتبُ العودةَ على الورقْ   

بل نحفرُها في الوقتْ  

ونعدُّ لها كلّما اشتدّ الحنين 

زيتونةً، أو بندقيةً،  

أو قصيدةً تعود بها المدينة.

عائدونَ…  

حين ينكسرُ السيفُ الذي حاولَ تمزيقَ اللغة 

حين تخضرُّ الأغاني في شفاهِ المنفيين  

حين ينحني العابرون من الخوفِ  

ويستقيمُ الأملُ مثلَ قامةِ كرديٍّ لم ينحْ.

عائدونَ…  

ليس لأن الزمنَ أنصفنا،  

بل لأننا  

أقسمنا على ذلك،  

والمكانُ لا يخونُ مَن يحبّ

 

*

أعلاه قراءة نقدية في نصين.

 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عِصْمَتْ شَاهِينَ الدُّوسَكِي

 

فِكْرِي كُلُّهُ لِلْمَلِكَةِ الْجَمِيلَة

تَمُرُّ بِخُطَاهَا الْجَلِيلَة

صَبَاحٌ أُحَيِّيهَا

وَمَسَاءٌ تُحَيِّينِي تَرْتِيلَة

مَا الْعِشْقُ بَيْنَنَا حُرُوفًا

بَلْ أَرْوَاحًا عَلِيلَة

هِيَ حُبًّا

وَلِحُبِّهَا تَكُونُ دَلِيلَة

*****

يَا صَوْتَ الْمَلَاك

اِغْفِ فِي ظِلِّ نَبْرَاتِك

أرْتَوِي مِنْ رِيقِك

أَتَنَفَّسُ مِنْ أَنْفَاسِك

أبَعْثِرُ خَارِطَةَ

أَشْوَاقِي عَلَى رَاحَتَيْك

لَهْفَتِي خَمْرُ ضِحْكَتِك

حُرُوفُكَ الْهَارِبَةُ

مِنْ إِحْسَاسِك

أَنْتَ قَصِيدَةُ شَوْقٍ لَا تَنْتَهِي

تَرْتَعِشُ يَدَيَّ بَيْنَ يَدَيْك

حُبُّنَا جُنُونٌ فِي مِحْرَابِ الِانْتِظَارِ

قَدْ نُعَانِي لَكِنِّي أَسْكَرُ مِنْ هَمْسِك

*****

مَرَّتْ لَحَظَاتٌ

كَالْفَلَكِ تَسْرِي فِي الْبُحَيْرَاتِ

لَحَظَاتٌ…

ماهين شيخاني

كانت أمي، البسيطة مثل خبز التنور، تسمع الأسماء الكبيرة عبر إذاعة ترسل أخبارها من وراء البحار. ذات يوم، التقطت أذناها اسمًا بدا لها مهيباً: هواري بومدين. لم تكن تعرف من هو الرجل، ولا ماذا يعني أن يكون رئيساً لبلد بعيد اسمه الجزائر. لكنها عرفت شيئاً واحداً: أن جاراتها سيتعجبن، وربما يغتبطن، إن كان ابنها…

إعداد: نصر محمد / المانيا

الفن في الغربة: إبداع رغم البعد

بطعم الغربة، وبالرغم من قساوة الظروف التي أبعدت الفنانين عن وطنهم وأهلهم، لا زالوا يبدعون. ملتقى الفن التشكيلي في مدينة كريفلد الالمانية، بدورته الرابعة، جاء ليجمع عقولاً متفردة، يجمعها حب الفن والسعي المستمر نحو إنجازات تخدم الإنسانية.

رعاية وتنظيم

نُظّم…

تقرير: فراس حج محمد (خاص)

صدر مؤخراً عن دار الرعاة للدراسات والنشر في رام الله للناقد الفلسطيني رائد الحواري كتاب جديد بعنوان “نقش فلسطيني”، يدرس المؤلف فيه أدب أربعة من الشعراء، وهم مأمون حسن (الأردن)، وجواد العقاد (غزة)، وصلاح أبو لاوي (الأردن)، وسامي عوض الله البيتجالي (الولايات المتحدة الأمريكية)، ويقع الكتاب في (251) صفحة.

إن عملية جمع…