بروز علي يعيد الفعل الجمالي إلى جوهره قبل ظاهره 

غريب ملا زلال 
لا ينفك الفنان التشكيلي السوري الكردي بروز علي عن التجديد في تجربته الفنية، مقدما نفسه في كل معرض ولوحة بأسلوب جديد، يبحث فيه عن ذاته بنسخته المتطورة يوما تلو الآخر، ومتتبعا صورة المدى بمراوغات أسلوبية ومحاولات مستمرة في البحث عن الحقيقة ورموزها في الأعمال المزدحمة بوجوه وأمكنة وألوان غريبة.
يلاحظ من القراءة الأولية لتجربة الفنان التشكيلي السوري بروز علي (القامشلي – 1980) أنها تجربة تصاعدية، فالسرد البصري لديه في حالة من التطور الدائم، ولهذا يرى من الواجب عليه أن يضيف شيئاً في كل عمل يخرج من بين أصابعه.
وقائمة المهمات لدى الفنان طويلة قد لا تنتهي، نعم فالحالة الإبداعية لديه مهمة ومسؤولية، ولهذا هي من أهم عناوين حياته، وفي أعلى القائمة لديه، لا ينتظر منها أن تصل وتعلن عن ذاتها، بل يمضي هو إليها ويعيد البحث كثيرا في تفاصيلها، وفي بعض الاستدلالات المضمرة منها إن كان في العلاقة بينها وبين الإبداع كمشاريع غير مؤجلة، أو في الكشف عن محركاتها الرئيسية على وجه الخصوص، فإشارات البحث والكشف في شريط تجربته تحيلنا إلى الوقوف عند مواقيت ملخصاته التي لا فكاك منها من السرد بلغته الخاصة، تلك اللغة الموحية والداعية إلى الحركة لإعادة الترتيب لفضاءات معتادة على ألا تغيب الفوارق عنها، تلك الفوارق التي تؤكد مشروعية أسئلته بإجاباتها الموحية بذوبان بطيء، على ألا تغيب عنها تلك التحولات التي تؤكد بقاء حكايته في الذاكرة مهما أطلق العنان لها.
وكل ما في فضاءات بروز علي يتحرك بفعل التغيير حينا، أو بفعل الروح الذي يترك تأثيره في كل أشكاله، بل في كل عنصر منها، ولا حاجة له في توسيع دوائر المشهد مهما أظهرت ضائقتها، فنسيج العاطفة فيها يحسم مصدر إلهامها، ومنبع وجدانها المرسوم من خيوط الضوء وأحباره أو من خيوط الماء وزرقته. فبروز فنان يلح في تقصي لغات الإبداع بعيون مفتوحة على الحياة طولاً وعرضاً وسطحاً وعمقاً، على الفنون وتجاربها وقيمها الجمالية. وهذه استجابة لحاجاته التي يجدها هنا، فلا سبيل له إلا التأمل دائماً في خصائص فنه وأدواته وتقنياته بحثاً عن الأبقى، فهو لا يجازف بالألوان مثلاً حين يتحمس لها، بل يعود إلى الحقل وما ينقصه، إلى تجلياته وما يوصلها إلى الآفاق المفتوحة، فهو قبل كل شيء يدرس ما يتملكه من رغبة، فربما كان عليه ألا يعلن الاكتفاء، وأن يقاوم تلك النمطية بدقة عالية، وبثقة حتى يكون المدى أكثر اتساعاً للقاء والتواصل والاتفاق.
وإذا نظرنا بإمعان أشد إلى ما يعكف عليه بروز علي من مشروع له خياراته المفتوحة، وجدنا أنه يجعل من الذهاب في اتجاهات مرتبطة ببناء موضوعات بحثه هي الأهم، فيدخل في تفاصيل الإطارات الكبرى، وبها يذهب بيسر وسهولة إلى مشاهد فيها تتحرك شخوصه المرسومة من أحاسيسه ذاتها، فالفضاء المتخيّل ذاته تتماثل الخيالات فيه ما يجعل المشهد متحركاً على نحو دائم وكأن الزمن غير معلوم تماماً، أو أنه مدرك إلى حد ما، وبما يشي به من تشكيلات لا تعارض نبضاته، فهو لا يقيد عقارب ساعته على توقيت ما، بل يحاول جاهداً أن تكون دقاتها إنسانية عامة، فالألم ذاته في الأجساد والأرواح كلها.
ويبدو الزمن عند بروز علي كأنه غائم جزئياً وفي ذلك تكمن شيفرة أقفاله الكثيرة، وإن كانت لغته الخاصة به تجعله يتكئ لا على السرد اللوني فقط، بل على ما ينداح منها ومعها من أسئلة تدفعنا إلى النقاش في اتجاه بحثه وتحليلها إلى اتجاهات أخرى، فهو يعيد الفعل الجمالي إلى جوهره قبل ظاهره، وأعماله تفيض برهافتها الفنية والإنسانية، وتفيض بفطرتها وأحاسيسها، وتجعلنا نضع أيادينا على حكايته بكل أوجاعها، وبكل ما تبثه من قصص عبر وصف تفصيلي لكن ليست بدفعة واحدة، بل على دفعات وجرعات تستغرق زمناً طويلاً وهي تغادر الأعمال لتستقر في روح متلقيه وقلبه بكل عواطفه وتعبه. فهي تحفل بتفاصيل ملامحها، وبدراما تزداد تراجيدية كلما تباين فيها زمن الوصف وزمن السرد.
ويستطيع بروز علي أن يعيدنا إلى نواظم وتداخلات أموره الفنية على نحو يلفت نظرنا إلى دلالاته السردية التخيلية بما يخدم ثماره المنتجة والجدل الخصيب الذي يقودنا إلى التمركز داخل لعبته، أقصد لغته ونظامها، والتي توحي بدورها بأدائه الإبداعي الموفق.
إن ما يثير إعجابنا لدى الفنان السوري بروز علي أنه يمنح عمله شكلاً أقرب إلى التوليف الفني إذا جاز لنا أن نسميها بذلك، ولا يمنع تبعثرها في فضاءاته، فهو يقوم بإسقاط ما لديه على البياض على نحو يؤدي به إلى اللعب الحر، فلا شيء يكبح حريته، فيعمل بنفسه على خلق أرضية صلبة وحاضرة بما تسمح به نفسها للتفسير، واستخلاص كل المقولات التي ترغب بأخذ مكانتها بعيدا عن المناورات اللونية.
ويقوم الفنان بعد ذلك بتغليفها بخطوط لوجوه مجازية هي نقطة انطلاقته في مشروعه الفني، فهذا التغليف هو في الحقيقة صورة المدى وهي تكشف ما يذهب إليها، والتي هي رهينة مراوغاته الأسلوبية وبحثه عن الحقيقة بكل مجازاتها واستعاراتها وكتاباتها ورموزها مهما كان العمل مزدحماً، ومهما كانت الأمكنة موجعة، وهو يقنع نفسه تماماً بأن تعبيراته تلك تحمل من اللحظات ما يترك في دواخله ألماً لا يكتفي بالتأمل مهما كان عميقاً، فكان لا بد من الدمج بينها، وبين تلك الأشكال الموحية حتى لا تأتي الولادة قيصرية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صبحي دقوري

في لحظة ثقافية نادرة، يتصدّر الموسيقار الكوردي هلكوت زاهير المشهد الموسيقي العالمي بعدد أعمال معتمدة بلغ 3008 أعمال، رقمٌ يكاد يلامس الأسطورة. غير أنّ أهمية هذا الحدث لا تكمن في الرقم نفسه، بل في ما يكشفه من تحوّل جذري في مكانة الموسيقى الكوردية ودورها في المشهد الفني الدولي.

فهذا الرقم الذي قد يبدو مجرّد إحصاء،…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

صبحي دقوري

يضع كتاب أزمة العالم الحديث لرينيه غينون قارئه أمام أحد أعمق التشخيصات الميتافيزيقية لانحدار العصر الحديث، تشخيص لا ينطلق من داخل الحداثة بل من خارجها، من أفقٍ تقليدي يرى العالم لا من زاوية التاريخ بل من زاوية المبدأ. غير أنّ هذا التشخيص لا يكتمل فهمه إلا إذا وُضع في موازاة جهود مفكرين كبار واجهوا…

ناصر السيد النور *

يدخل الروائي السوري (الكردي) والطبيب في روايته الصادرة مؤخراً عن دار رامينا اللندنية -هذا العام- إلى تجاويف سردية غائرة بدلالاتها السيكولوجية في تعبير جريء وشاخص لشخصياته روايته التي اتخذت مساراً سردياً يغلب عليه التفصيِّل في شمول سردي يتخطى أحيانا المساحة (الفضاء السردي) المتاح. بافتراض أن التطابق ما بين احالات النص السردي وقيمة…