ربيع القرية.. ذاكرة لا تذبل

 خلات عمر

في قريتنا الصغيرة، حيث الطرقات تعانقها الخضرة، كانت سعادتنا تزهر كل صباح جديد. كنا ننتظر وقت اجتماعنا المنتظر بلهفة الأطفال، نتهيأ وكأننا على موعد مع فرح لا ينتهي. وعندما نلتقي، تنطلق أقدامنا على دروب القرية، نضحك ونمزح، كأن الأرض تبتسم معنا.

كانت الساعات تمر كالحلم، نمشي طويلًا بين الحقول فلا نشعر بالوقت، حتى يعلن الغروب حضوره الذهبي فيغمر وجوهنا بضياء دافئ. كنا نجلس عند النبع القديم، نتأمل ماؤه العذب وحركات الأسماك الجميلة فيه، ومع خرير المياه كأنه يغني من فرحه معنا. الأشجار من حولنا تتهامس بأصوات أوراقها وكأنها تشاركنا الضحكات.

لم نكن وحدنا، فمشهد قطيع الأغنام عند الغروب كان مفعمًا بالحياة والدفء. تراهم يتدافعون بخطى سريعة أحيانًا وبطيئة أحيانًا أخرى، وأصواتهم مختلطة برنين الأجراس المعلقة في أعناقهم، فتشكل موسيقى ريفية هادئة تبعث الطمأنينة. والبط والوز يرفرفان في السواقي كأنهما جزء من فرحتنا. كنا نشعر أن القرية عائلة واحدة: الطبيعة، الإنسان، والكائنات الصغيرة جميعهم يرقصون معنا على إيقاع البساطة.

وكم كان القلب نقيًا في تلك الأيام، لا يعرف سوى الطهر والضحكات الصافية. كانت صداقتنا كزهر الربيع، ترويها المحبة ويظللها الأمل. واليوم، كلما عدنا بالذاكرة إلى تلك اللحظات، يبتسم القلب رغم التعب، لأننا عشنا زمنًا جميلًا صادقًا بكل معنى الكلمة.

وكما أن الربيع لا يبقى دائمًا، كذلك أيامنا في القرية تغيّرت مع مرور الزمن. كل صديقة مضت في جهة مختلفة، تفرقت بنا الطرق، وأصبح اللقاء الذي كان يومًا عادة، ذكرى نغضّ عليها بالحنين. كان الفراق ألمًا يثقل القلب، كأن غروب الشمس الذي كنا نضحك في حضوره، أصبح غروبًا للأيام الجميلة.

القرية التي كانت تضج بالضحكات والأغاني صارت بيوتًا مهجورة، نوافذها تصرخ صمتًا، وصوت الريح صار زائرها الوحيد. جدرانها تحفظ أصداء أصواتنا كأنها لا تريد أن تنسى. الأشجار التي زرعها الأجداد عطشى بلا يد تسقيها، والطرق التي شهدت الأفراح صارت تبتلعها الأعشاب. كثير من أبنائها رحلوا عنها بحثًا عن حياة أخرى، شبابها سافروا بعيدًا، وبيوتها أقفلت على قصص لم تكتمل فصولها.

لم يبقَ في القرية سوى ختايرة أنهكهم الزمن بهمومه، حيث عاشوا أجمل سنوات عمرهم تحت سقف الطين، ثم تركهم الأبناء وهم بأمسّ الحاجة إليهم، وحيدين في بيوت يصارعون تعب العمر، لا يزورهم سوى الصدى. وجوههم مليئة بالتجاعيد، لكن كل خط فيها يحكي قصة صبر ووجع عن أيام لم يعرفوا فيها الراحة. يجلس كل واحد منهم قرب الباب الخشبي العتيق، يتأملون الطريق الذي كان يعج بالحياة، ينتظرون زائرًا قد لا يأتي أو صوتًا يعيد إليهم ذكرى أولئك الذين رحلوا.

القرية باتت مثل كتاب مفتوح على صفحة حزينة، كتب عنوانها بمداد الفراق، وتركها القدر لمصير مجهول. بقيت شاهدة على رحيل ساكنيها، كأنها تنتظر عودة أصواتهم لتعيد إليها الحياة، لكن الانتظار طال، وطال معه الحزن الصامت بين أحجارها العتيقة.

ورغم أن القرية تغيّرت، وتلك الأيام الجميلة صارت ذكرى، يبقى في القلب بستان لا يذبل، تسكنه ضحكاتنا وخطواتنا فوق ترابها. قد لا نعود جميعًا كما كنا، وقد لا تلتقي الأرواح في الدروب القديمة، لكن الذكرى تظل جسرًا يعيدنا إليها كلما ضاق بنا الحاضر. سيبقى ربيع القرية حيًّا في صدورنا ما دامت قلوبنا تنبض بحبها. وربما يأتي يوم تعود فيه الحياة لتلك البيوت المهجورة، تعود الضحكات لتملأ الساحات، فالذكريات التي عشناها أقوى من الغياب وأصدق من الفراق. وما تركه الزمن فينا من حنين، هو بذرة أمل بأن القرية ستزهر من جديد، ولو في قلوبنا أولًا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

بطبعة أنيقة وحلة قشيبة، وبمبادرة كريمة وعناية كبيرة من الأستاذ رفيق صالح، مدير مركز زين للتوثيق الدراسات في السليمانية، صدر حديثا كتاب “علم التاريخ في أوروبا وفلسفته وأساليبه وتطوره”، للدكتور عصمت شريف وانلي، رحمه الله. والكتاب يعتبر عملا فريدا من نوعه، فهو يتناول علم التاريخ وفلسفته من خلال منهج علمي دقيق لتطور الشعوب والأمم…

عبدالجابر حبيب

 

منذ أقدم الأزمنة، عَرَف الكُرد الطرفة لا بوصفها ملحاً على المائدة وحسب، بل باعتبارها خبزاً يُقتات به في مواجهة قسوة العيش. النكتة عند الكردي ليست ضحكة عابرة، وإنما أداة بقاء، و سلاح يواجه به الغربة والاضطهاد وضغط الأيام. فالضحك عنده كان، ولا يزال يحمل في طيّاته درساً مبطناً وحكمة مموهة، أقرب إلى بسمةٍ تخفي…

أعلنت منشورات رامينا في لندن، وبدعم كريم من أسرة الكاتب واللغوي الكردي الراحل بلال حسن (چولبر)، عن إطلاق جائزة چولبر في علوم اللغة الكردية، وهي جائزة سنوية تهدف إلى تكريم الباحثين والكتّاب المقيمين في سوريا ممن يسهمون في صون اللغة الكردية وتطويرها عبر البحوث اللغوية والمعاجم والدراسات التراثية.

وستُمنح الجائزة في20 سبتمبر من كل عام، في…

في زمنٍ تتكسر فيه الأصوات على صخور الغياب، وتضيع فيه الكلمات بين ضجيج المدن وأنين الأرواح، يطل علينا صوتٌ شعريّ استثنائي، كنسمةٍ تهبط من علياء الروح لتفتح لنا أبواب السماء. إنه ديوان “أَنْثَى عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ” للشاعرة أفين بوزان، حيث تتجلى الأنوثة ككائنٍ أسطوري يطير فوق جغرافيا الألم والحنين، حاملاً رسائل الضوء، ونافخاً في رماد…