الابنة ليست غريبة… بل شرف الدار وكرامتها

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن الدفاع عن الأرض والعرض، ولا عن حماية الروابط الأسرية وصون الكرامة.

لكن، رغم هذا التاريخ العريق في المساواة والشرف، ما زالت بعض العادات العشائرية تُلقي بظلالها الثقيلة على حياتنا المعاصرة. من بين هذه العادات المذمومة التي لم تنقرض بعد، عادة التفرقة بين الذكور والإناث في الزواج، إذ تُعامل زواج البنت وكأنه شأن ثانوي أو حتى غريب، فلا تُقام له الاحتفالات بالشكل اللائق، ولا تُوجَّه الدعوات للأصدقاء والمعارف كما يُفعل عند زواج الابن. وكأنّ الابنة التي وُلدت ونشأت في بيت أبيها، وساهمت في بناء اسمه وسمعته، تصبح فجأة “غريبة” بمجرد انتقالها إلى بيت الزوجية.

هذه الفكرة ليست فقط ظالمة، بل أيضًا مهينة، وتبعث الكراهية بين الأبناء أنفسهم. فالابن يُفضّل على الابنة، ويُعامل وكأنه الامتداد الوحيد للعائلة، بينما تُهمّش الابنة وكأنها عابرة سبيل. هذا التمييز يولّد جرحًا عميقًا في نفس المرأة، ويزرع مشاعر النقص والخذلان، كما يُعمّق من ثقافة التفرقة التي لا تُفضي إلا إلى تفكك اجتماعي وصراعات عائلية صامتة.

الزواج، في جوهره، ليس ملكًا للرجل وحده، ولا مناسبة حصرية للاحتفاء بالذكر. بل هو مناسبة مشتركة، فرحة إنسانية، وعهد جديد يُبنى بين عائلتين. فكيف يُعقل أن يُكرَّم الابن بحفلات عامرة بالمدعوين والأهازيج، بينما يُختزل زفاف الابنة في إطار محدود، وكأن فرحتها عبء يجب أن يُخفى عن الأنظار؟

إنّ هذه العادة تعكس ذهنية عشائرية قديمة تُعلي من شأن الذكر باعتباره “وارث الاسم” و”عمود البيت”، بينما تُقصي الابنة باعتبارها “سترحل إلى بيت الغريب”. لكن الحقيقة التي نتجاهلها هي أنّ الابنة لا ترحل. إنّها تبقى ابنة لبيت أبيها مهما تغيّرت الأقدار. تبقى رمزًا للشرف، وجسرًا للمحبة، وحلقة وصل بين العائلتين.

بل أكثر من ذلك: الابنة هي التي تحافظ على صورة العائلة في بيتها الجديد، وهي التي تنقل القيم والعادات الطيبة إلى أبنائها وأحفادها. فإذا أهملناها يوم فرحتها، فإننا لا نجرحها وحدها، بل نجرح سمعة العائلة ذاتها، ونُظهر أنفسنا أمام الناس بمظهر المتناقضين الذين يتشدقون بالكرم في المناسبات العامة لكنهم يبخلون به في بيتهم الداخلي.

تاريخ المرأة الكوردية يُذكّرنا بأن الحرية والكرامة لم تُمنح لها يومًا كهدية، بل انتزعتها بصبرها ونضالها. من المقاتلة في الجبال، إلى المزارعة في الحقول، إلى المعلمة والطبيبة والناشطة، كانت المرأة الكوردية دومًا في الصفوف الأولى، تتحمل الأعباء وتقدّم التضحيات. أفلا تستحق هذه المرأة، التي صنعت التاريخ بيدها، أن تُكرَّم يوم فرحها كما يُكرَّم شقيقها؟

التقاليد لا عيب فيها حين تعكس الأصالة والقيم الإنسانية، لكنها تتحوّل إلى عار حين تُمارَس كأداة تمييز وكبت. إنّ واجبنا كمدافعين عن حقوق المرأة أن نكشف هذه الممارسات وأن نقول بصوت عالٍ: الابنة ليست غريبة. الابنة شرف الدار، وفرحتها فرحتنا جميعًا.

على العائلات الكوردية أن تُعيد النظر في هذه العادات، وأن تُكرّم بناتها بالقدر نفسه الذي تُكرّم فيه أبناءها. فالفرح الذي يُزرع في قلب الابنة يعود أضعافًا مضاعفة إلى بيت أبيها. والتمييز الذي يُمارَس ضدها لا ينعكس إلا خزيًا على من يمارسه.

في النهاية، يجب أن ندرك أنّ المساواة بين الأبناء ليست مطلبًا نسويًا فحسب، بل هي قيمة إنسانية وأخلاقية تُبنى عليها المجتمعات السليمة. فإذا أردنا أن نحافظ على قوة العائلة الكوردية ووحدتها، فعلينا أن نضع حدًا لهذه الممارسات. علينا أن نحتفي بالابنة كما نحتفي بالابن، وأن نجعل من زواجها مناسبة فخر وفرح وكرامة، لا مناسبة للتهميش أو التمييز.

فلنُعلنها بوضوح: زفاف ابنتنا ليس عرس الغرباء، بل هو عرس البيت كله، وعرس الكرامة الكوردية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لَيْسَ الاستبدادُ حادثةً عابرةً في تاريخِ البَشَرِ ، بَلْ بُنْيَة مُعَقَّدَة تَتكرَّر بأقنعةٍ مُختلفة ، وَتُغَيِّر لُغَتَهَا دُونَ أنْ تُغيِّر جَوْهَرَها . إنَّه مَرَضُ السُّلطةِ حِينَ تنفصلُ عَن الإنسانِ ، وَحِينَ يَتحوَّل الحُكْمُ مِنْ وَظيفةٍ لِخِدمةِ المُجتمعِ إلى آلَةٍ لإخضاعه .

بَيْنَ عبد الرَّحمن الكواكبي (…

عبدالجابر حبيب

 

يا صديقي

بتفصيلٍ ثقيلٍ

شرحتُ لكَ معنى الأزقّةِ،

وكيفَ سرقتْ منّي الرِّياحُ وجهَ بيتِنا الصغيرِ،

لم يكنْ عليَّ أن أُبرِّرَ للسّماءِ

كيفَ ضاعتْ خطواتي بينَ شوارعَ غريبةٍ،

ولم يكنْ عليَّ أن أُبرِّرَ للظِّلالِ

كيفَ تاهتْ ألوانُ المساءِ في عينيَّ،

كان يكفي أن أتركَ للرِّيحِ

منفذاً خفيّاً بينَ ضلوعي،

أو نافذةً مفتوحةً في قلبي،

فهي وحدَها تعرفُ

من أينَ يأتي نسيمُ الحنينِ.

كلُّ ضوءٍ يُذكِّرُني ببيتِنا…

غريب ملا زلال

يتميز عدنان عبدالقادر الرسام بغزارة انتاجه، ويركز في اعماله على الانسان البسيط المحب للحياة. يغرق في الواقعية، يقرأ تعويذة الطريق، ويلون لحظاتها، وهذا ما يجعل الخصوصية تتدافع في عالمه المفتوح.

عدنان عبدالقادر: امازون الانتاج

للوهلة الاولى قد نعتقد بان عدنان عبدالقادر (1971) هو ابن الفنان عبدالقادر الرسام…