من حقائب الطفولة إلى مفاتيح الحياة

المهندس باسل قس نصر الله

حينَ أنظرُ إلى أبنائيَ اليومَ، وقد أصبحَ كلُّ واحدٍ منهم يقودُ حياتَه ويصنعُ عائلتَه، أبتسمُ في داخلي وأقولُ: نعمْ … لقد صارَ لكلِّ بيتٍ جيشُه الصغيرُ، ومجموعُ هذه الجيوشِ هو جيشُنا الكبيرُ.

تعودُ بي الذاكرةُ إلى البداياتِ … إلى صباحاتٍ كنا نستيقظُ فيها على صوتِ أمِّهم وهي تُصدرُ أوامرَها الصارمةَ والحنونةَ معاً. كان الحمّامُ ساحةَ معركةٍ صغيرةٍ:

ـ “اغسلْ وجهَك منيحْ”
ـ “لا تزعجْ أختَك”
ـ “يلا بسرعةْ”.

ثم يأتي وقتُ اللباسِ، واليدُ التي لا تتركُ شيئاً للصدفةِ: بنطالٌ نظيفٌ، كنزةٌ مرتبةٌ، شعرٌ ممشّطٌ، وأحذيةٌ مصقولةٌ. وفي النهايةِ، يخرجونَ إلى مدارسِهم كالعصافيرِ الملوّنةِ، يحملونَ حقائبَ أكبرَ من أجسادِهم الصغيرةِ.

وعند عودتِهم، تبدأ جولةٌ أخرى: الطعامُ، الوظائفُ، الملاحظاتُ، والاعتراضاتُ.

جدولُ ضربٍ يُكتبُ، نصٌّ يُقرأُ، ودفترُ وظائفَ يُفتّشُ. وبين صوتٍ يعلو، وضحكةٍ تتسرّبُ، كانت الأيامُ تمضي، ليأتي الصيفُ بفسحاتِه، وبقطارِ اللاذقيةِ في سوريةَ، وبالبحرِ الذي لا يملّونَ منهُ.

واليومَ… تغيّر المشهدُ. كبر الأولادُ وصاروا هم من يخططونَ للرحلاتِ، هم من يجتمعونَ ويتناقشونَ، وصار صوتُ أمِّهم مختلفاً: لم يعدْ يحملُ الأوامرَ، بل الدعواتَ والبركةَ … “الله يحميكمْ” … “اشتقتلكمْ” … “الله يرزقكم”.

لكن الغريبَ أن الذكرياتِ لا تشيخُ. ما زلتُ أراهم أطفالاً كلما نظرتُ في وجوهِهم، حتى وهم يقودونَ سياراتِهم ويأخذونَنا في جولاتٍ سياحيةٍ، فرحينَ بأن يُرونا أماكنَ جميلةً ويشتروا لنا ما يسرّنا. 

هم لا يعرفونَ أنني، في تلك اللحظاتِ، أستعيدُ صورَهم القديمةَ: كيف كنتُ أقودُ السيارةَ وهم نائمونَ في المقاعدِ الخلفيةِ، أو كيف كانوا يصرّونَ على شراءِ لعبةٍ في مدينةِ الملاهي.

دورةُ الحياةِ عجيبةٌ: كنا نحنُ من نشتري لهم، واليومَ صاروا هم من يفرحونَ بشراءِ ما يفرحُنا. كنا نحنُ من يأخذُهم إلى البحرِ، واليومَ هم من يدعونَنا لنمشيَ معهم على شاطئٍ جديدٍ.

هذا الشاطئ هو الجسرُ بين طفولتِهم وشبابِهم، بين ضحكاتِ الأمسِ ومسؤولياتِ اليومِ.

كلُّ عائلةٍ عاشت هذا المشهدَ بطريقتِها الخاصةِ، وكلُّ أمٍّ كانت قائداً أعلى لجيشِها الصغيرِ. وهذه الجيوشُ الصغيرةُ، على اختلافِ تفاصيلِها، هي التي صنعت صورةَ سوريةَ، وزهرتَها، وخريطتَها التي رسمها الأطفالُ مرةً بألوانِ الطباشيرِ … وعلينا نحنُ أن نحميَها اليومَ بجيشِنا الكبيرِ.

اللهم اشهد اني قد بلّغت

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مسلم عبدالله علي

ونحن صغار، كان أبي دائمًا يُصرّ أن نجتمع جميعًا حول سفرة الأكل دون استثناء. لم تكن السفرة تُمدّ إن كان أحدنا متأخرًا، بل ننتظر حتى يأتي.

وإن تحجّج أحدنا بأنه ليس بجائع، كان يُصرّ عليه بالجلوس، وأي جلوس! بقرب كيس الخبز وقنينة المياه ليصبّ لكل من أراد ذلك. وأحيانًا كانت أمي تحاول إنجاز بعض…

ماهين شيخاني

تتوالى الأنباء كما لو أنها خيوط حزن تتسرب إلى القلوب: خبر وفاة مناضلٍ كبير، وشخصية كوردية تركت بصمة عميقة في الوجدان والتاريخ.

لقد التقيتُ به أكثر من مرة ، في مناسبات عامة وفي داره العامر، حيث كان الاستقبال ودوداً والبساطة شاهدة على عظمة رجلٍ لم تُغره المناصب. وحين بلغني خبر رحيله ، شعرتُ كأن صفحة…

خالد بهلوي

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للترفيه والتسلية، بل تحولت إلى فضاء واسع للتعبير عن الرأي وتبادل المعرفة وصناعة الوعي الجمعي. وفي الحالة السورية، التي تمر بمرحلة حساسة من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تزداد أهمية هذه الوسائل بوصفها أداة فعّالة لرصد الواقع وكشف الحقائق والمساهمة في رسم ملامح سوريا المستقبل.

أغلب مستخدمي هذه…

أحمد جويل

 

أنا نارٌ ملتهبة

إن لامستني…

تتجمدين في حجرتك الثلجية.

 

أنا كأسُ خمرٍ من عينيك

تعالي نسكر معاً

على ألحان الوجع المزمن

في ثنايا دفاتر المدارس.

 

أنا سبورةُ الكاشف السحري

للكلمة…

أقرأ مواضيع التدوين

بلا حروف.

 

عيناك ديوانٌ للشاعر

وعلى ضفتيه استراحةُ مقاتل.

 

أنا نولُ الكوجرية

بمغزلها الخشبي،

أرسم لوحةً لضحكات الطفولة

وعلى وتر (كركيتك)

أعزف ملحمة عشقي

للقبرات،

وحقول البيلسان.

 

أنا جمرة

متكئة على صدغ صخرة،

أستعد لطهي وليمة

لبياع التذاكر

إلى (مارتن لوثر كينغ)

في حفلة الخلود.

 

أنا شجرة…