ماهين شيخاني
تتوالى الأنباء كما لو أنها خيوط حزن تتسرب إلى القلوب: خبر وفاة مناضلٍ كبير، وشخصية كوردية تركت بصمة عميقة في الوجدان والتاريخ.
لقد التقيتُ به أكثر من مرة ، في مناسبات عامة وفي داره العامر، حيث كان الاستقبال ودوداً والبساطة شاهدة على عظمة رجلٍ لم تُغره المناصب. وحين بلغني خبر رحيله ، شعرتُ كأن صفحة مضيئة من ذاكرة الكفاح قد طُويت على عجل ، وكأن الزمن بتر جزءاً من ذاكرتي وأنا لا أملك إلا أن أنزف.
في صباح الخميس، الرابع والعشرين من تشرين الأول عام 2019، غاب الأستاذ حميد حاج درويش، سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي، بعد وعكة صحية مفاجئة في مدينة قامشلو. كان رحيله صادماً، وإن لم يكن غريباً على جسد أنهكته السنين، بعد مسيرة طويلة من العطاء والنضال. ذلك الرجل ، أحد مؤسسي أول حزب كردي عام 1957، لم يكن مجرد سياسي، بل كان رمزاً لجيلٍ حلم بالحرية والعدالة ، وعاش تفاصيلها بين السجون والحوارات والخيبات والأمل الذي لا ينطفئ.
وُلد عبد الحميد حاج درويش عام 1930 في قرية القرمانية التابعة لناحية الدرباسية. ومنذ شبابه المبكر حمل هموم شعبه ، مؤمناً بأن السياسة ليست إلا وجهاً آخر للمسؤولية الأخلاقية تجاه الناس. عُرف بعلاقاته الاجتماعية الواسعة ، وبحكمته التي جمعت المختلفين أكثر من مرة على طاولة واحدة. وفي عام 2007 شغل منصب نائب رئيس “إعلان دمشق” للمعارضة السورية، كما رأس جلسات عديدة في محافل وفعاليات المعارضة بعد الحراك السوري عام 2011. ظلّ صوته هادئاً، لكنه نافذٌ إلى القلب، لأنه كان صادقاً في انحيازه للشعب لا للمصالح العابرة.
ولم تكن علاقتي به محض لقاءات بروتوكولية. أتذكر جيداً يوم حضر معرضنا الفني في قامشلو في قبو احدى البنايات ، واقفاً أمام إحدى اللوحات وإلى جانبه عقيلته. كانت اللوحة تجسّد امرأة كوردية ترتدي غطاء الرأس “هبرية “. توقف طويلاً أمامها، ثم التفت إليّ مبتسماً:
” هل شدّ الهبرية بهذا الشكل صحيح ، أم أن الرسام ترك للخيال مساحة..؟.”
ضحكنا جميعاً ، ثم انطلق بيننا حديث عن رمزية اللباس الكوردي، وعن المرأة كحافظة للهوية. كان يرى في التفاصيل الصغيرة ما يعكس الروح الكبرى للشعب ، حتى إن مناقشته البسيطة حول قطعة قماش تحولت إلى درسٍ في معنى الهوية.
كما تذكرت تلك الوليمة التي جمعتنا يوماً. جلسنا حول المائدة نستمع إليه أكثر مما نتحدث. كان حديثه ممتداً كالنهر، لا يملّ السامع منه ، يمزج بين الحكاية والتاريخ ، بين الطرفة والوجع ، حتى بدا كأنه يروي سيرة شعب بأكمله لا سيرته الشخصية فقط.
وحين نُقل جثمانه في قامشلو إلى قاعة نور الدين زازا، توافد الأصدقاء والرفاق والناس البسطاء الذين أحبوه، ليلقوا عليه نظرة الوداع الأخيرة. ثم شُيّع في صباح الجمعة، الخامس والعشرين من تشرين الأول 2019، بجانب الملعب البلدي، قبل أن يُوارى الثرى في مسقط رأسه بقرية القرمانية، حيث بدأت الحكاية، وحيث يعود التراب ليحتضن أحد أبنائه الأوفياء.
لكن الوجع كان مضاعفًا… ففي تلك الأيام، كانت الدرباسية ورأس العين وتل تمر وأبو راسين شبه خالية من أهلها، بعد أن فرّ معظم سكانها إلى أماكن متفرقة، ومنهم نحن الذين وجدنا ملجأً في إقليم كوردستان. جاءنا خبر وفاته ونحن في المخيم، نعيش الغربة في غربتين: غربة الأرض وغربة الفقد. كان الألم أشد لأننا لم نكن هناك، لم نكن بين الجموع التي ودعته، وكأن الموت اختطفه من بين أيدينا كما اختطف الوطن من تحت أقدامنا.
في المخيم، بين الخيم البيضاء المصفوفة، كان صدى الخبر يخيّم على الوجوه. جلسنا نتذكره، كلٌّ يستعيد لحظته الخاصة معه، حديثًا أو ابتسامة أو موقفًا نبيلًا. شعرتُ أن رحيله لم يكن مجرد فقدٍ لشخصية بارزة، بل كان انهيارًا لجدار من جدران الذاكرة الكردية، جدارٍ كان يحمينا من التلاشي وسط هذه الرياح العاصفة.
رحل حميد حاج درويش، لكن سيرته تبقى حيّة، كصفحة لا تُطوى من كتاب النضال الكردي، وكجسرٍ يربط الأجيال بما كان، وما يجب أن يكون. بعض الرجال يموتون في أجسادهم فقط، أما أرواحهم فتظل كالجذور الخفية التي تشدّ الشجرة إلى الأرض، لتبقى واقفة مهما عصفت بها العواصف.
- جزء من رواية : مدينتان ونصف وطن ..في زمن النزوح ..؟.