مسلم عبدالله علي
ونحن صغار، كان أبي دائمًا يُصرّ أن نجتمع جميعًا حول سفرة الأكل دون استثناء. لم تكن السفرة تُمدّ إن كان أحدنا متأخرًا، بل ننتظر حتى يأتي.
وإن تحجّج أحدنا بأنه ليس بجائع، كان يُصرّ عليه بالجلوس، وأي جلوس! بقرب كيس الخبز وقنينة المياه ليصبّ لكل من أراد ذلك. وأحيانًا كانت أمي تحاول إنجاز بعض أعمالها التي لا تنتهي وقت الطعام، لكن أبي كان يغضب لذلك غضبًا كنت أراه غير مبرَّر.
حتى تجرّعنا كأس الغربة، وعرفنا ما معنى أن تُحضِر طعامك وحدك، وتجلس وحيدًا على مائدة الأكل: لا أحد يسكب لك ماء، ولا يمدّ إليك قطعة خبز، ولا يشاركك الحديث كما كنّا نفعل صغارًا، حين لا نتوقف عن الكلام عن أحلامنا الصغيرة وتفاصيل يومنا الطويل، ولا حتى مشاجرة جانبية على الطعام.
قبل يومين، كنا في رحلة إلى محافظة دهوك، إلى مصايف (كلي شرانه) ومياهها الزرقاء. قبل الغداء، شعرت بتعب الطريق وقلة النوم، فأخذت غفوة قصيرة. لكن سرعان ما تعالت الأصوات وضجيج التحضير للأكل، فقمت بلا شهية وبمزاج معكّر. ربطت هاتفي بالسماعة الكبيرة، وشغّلت أغنية شعبية، ورحت أرقص وحيدًا، ألوّح بيدي وأقفز من قدم إلى أخرى كالمجنون، أفتل حول نفسي لعلّ المزاج يتحسّن وأستطيع أن ألتهم بعض اللقم. كنت أشعر بنظرات الاستغراب من حولي. بعد قليل، جاء أحدهم ورقص معي بضع خطوات، لكنه ما إن رفع رأسه حتى بدا له الموقف غريبًا، فابتعد. أما أنا فواصلت الرقص حتى انتهى التحضير وجلست إلى السفرة، ولم أحصل من الرقص إلا على القليل مما أردت.
كانت السفرة مزدحمة جدًا، نجلس متلاصقين، حتى إن أحدهم لم يجد مكانًا واضطر أن يجلس بشكل مائل. إحداهن بدأت تسكب الطعام، وآخر يوزّع الخبز، وثالث يملأ الكؤوس بما يرغبه الآخرون. باشرنا الأكل وتنقّلنا بين الأحاديث والضحكات. شيئًا فشيئًا، بدأوا يغادرون واحدًا تلو الآخر، بينما بقيت أنا ألتهم الطعام وأشاركهم الأحاديث، ولم أغادر إلا بعد آخر شخص. استغربت من نفسي وقد ملأتُ بطني، ثم لملمنا السفرة وحضّرت كأس متّة وجلست أفكّر.
لم أرغب أن أخبرهم بما شعرت، فهذه الأشياء حين تُقال في جماعة إمّا لا تُؤخذ بجدية، أو لا تترك في النفس أثرًا. قلت في نفسي: كيف أنا الذي لم أكن جائعًا، أنهيت طبقين من المقلوبة، وصحنًا من الدولمة، وكررت طبق السلطة؟ والأعجب أني، الذي دائمًا يتذمّر من أكل الرز وتكراره في مطابخ كردستان، لم يكن على السفرة غيره! لعلي كنت جائعًا لذلك الشعور… شعور الالتفاف حول سفرة واحدة، والخوض في أحاديث أكثر مما كنت جائعًا للطعام نفسه. لذلك تمسّكت بالبقاء، ولم أغادرها إلا آخرهم.
إن الجوع لم يكن للطعام، بل للدفء الجماعي.