ظلّ اللاجئ

ماهين شيخاني

قيل إن المخيم لم يُبنَ على أرضٍ عادية، بل على فراغٍ قديم ابتلع قرى وذاكرات.

من يعبر بوابته لا يعود كما كان؛ فالزمن هناك يسير مكسورا، والساعات المعلقة على جدران الخيم لا تعطي التوقيت ذاته، وكأن كل خيمة تعيش في ساعة مختلفة. بعض الناس فقدوا أسماءهم، وآخرون استعاروا أسماء غيرهم. وفي مساءٍ لم يُعرف تاريخه، وُلد رجل لم تلده امرأة: خرج من رماد رجل آخر، اسمه مروان. ومن موت مروان، وُلد شيروان.

 

كان شيروان يسير في الممرات الضيقة مثل ممثل في مسرح بلا جمهور. سيجارته تتوهّج كجمرة تُكتب بها تعاويذ في الهواء. لم يكن واحداً من اللاجئين، ولا غريباً عنهم أيضاً؛ كان ظلّهم الممدود على الأرض: ذلك الجزء الخفي الذي يخافون الاعتراف به.

 

اكتشف شيروان باكراً أن الناس هنا لا يعيشون بالخبز وحده.

الأمل، في المخيم، أثمن من الزيت والسكر والدقيق. الأمل يُباع ويُشترى، ولا يحتاج إلى مخازن ولا تراخيص.

 

كان يجلس تحت عمود إنارة ، يحيط به بعض رجال المخيم. عيونهم كانت تشبه جمرات تبحث عن نفخة حياة. وحين يسألونه عن أوروبا، يضحك كما يضحك العرّاف الذي يتلذذ بتعطيل النبوءة.

 

– “ألمانيا..؟. تلك حكاية قديمة. السويد هي البوابة الآن. عندي رجل في الـUN، الأسماء تُفتح مثل دفاتر قديمة. لكن عليكم أن تعرفوا: الأبواب الكبيرة تحتاج دائماً إلى تزييت حتى تُفتح.”

 

وكانت كلماته تلمع في عقولهم أكثر من المصابيح نفسها.

 

لم يكن يكتفي ببيع الأمل.

كان يعرف أن لكل خيمة ظلاً آخر، وأن وراء كل بطاقة تموين حكاية تُشترى بثمن بخس.

كان يجمع حصص الطحين والزيت والسكر، يكدّسها في أكياس، ثم يبيعها في الخارج بأضعاف ثمنها. وفي ليالٍ أخرى، يتحوّل إلى صرّاف للمجهول: دولارات تنزل من سماء المغتربين عبر الحوالات، فيحوّلها بأصابعه مثل ساحر يخرج نقوداً من الهواء.

 

لذلك لقّبه الناس سرّاً: ظلّ اللاجئ.

لم يعرفوا إن كان نصّاباً، وسيطًا، أم زعيماً غير معلن، لكنهم أيقنوا أنه يملك شيئاً لا يملكونه: القدرة على النجاة ولو بالخداع.

 

غير بعيد، جلس رجل ستيني عند باب خيمته، يراقبه بصمت. لم يكرهه ولم يصدّقه.

كان يرى الحقيقة عارية، يهمس لنفسه كمن يفسر لغزاً قديماً:

“من يبيع الأمل لا يحتاج إلى بضاعة… يكفي أن يترك الناس يكتبون الكذبة بأنفسهم.”

 

في ليلة بلا تاريخ، أعلن شيروان الاجتماع الكبير:

– “الليلة… القافلة الأولى. الأسماء عندي. استعدوا.”

 

انتشر الخبر مثل نارٍ في هشيم من قشّ.

نساء حزمن أمتعة غير كافية لرحلة خلاص، رجال توضأوا كأنهم ذاهبون لصلاة، أطفال ارتدوا ثياب العيد، ظانين أنهم ذاهبون إلى جنّة خلف الحدود.

 

لكن مع الفجر لم يكن هناك شيء.

لا قوافل. لا حافلات. لا أسماء. لا شيروان.

فقط دفتر أسود ممزق في الوحل، وصفحات تتطاير في الهواء كطيور مذبوحة.

 

غطّى الصمت المخيم كما يغطي الغبار مدينة مهجورة.

بعضهم بكى، بعضهم صرخ، لكن الغالبية جلسوا مذهولين، كأنهم يلومون أنفسهم أكثر مما يلومونه. وفي الزاوية ذاتها، قال المراقب:

– “شيروان لم يسرقهم وحده… لقد شاركوه في الكذبة. كلنا هربنا من موت سريع لنجد موتاً أبطأ تحت سقف الخيمة.”

لكن الحكاية لم تنتهِ عند المخيم.

بعد أسابيع، ظهر وجهه على شاشة هاتف فيسبوك.

صورة لرجل يقف على شاطئ إسبانيا، البحر الأزرق خلفه، سيجارة بين أصابعه، وابتسامة واسعة لا تشبه ابتسامته في المخيم.

 

تحت الصورة كتب شاب كان قد سلّمه ماله ذات ليلة:

– “ها هو وصل… وأنا ما زلت في الخيمة.”

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شيرين خليل خطيب

في أيِّ مجال إبداعي، أو أي حرفة تعتمد على الحس والموهبة، يظهر أشخاص يظنون أن بإمكانهم اقتحام هذا العالم لمجرد أنه يعجبهم أو أنهم يحلمون بالانتماء إليه. لكن الحقيقة المُرَّة التي مهما حاولنا تجميلها، هي أن بعض الطرق لا تُفتح لكل عابر، وأن بعض الفنون تحتاج إلى موهبة أصلية أو حد…

خالد بهلوي

اختُتمت الدورة الإلكترونية لتعليم كتابة سيناريو السينما الكردية، التي أُنجِزت بإشراف الدكتور جاسمي وزير سَرهَدي، البروفيسور في المسرح والسيناريو (الدراما الهوليوودية)، والمدرّس السابق في جامعة صلاح الدين في هولير، والحاصل على عدة جوائز دولية في كتابة السيناريو السينمائي.

قدّم الدكتور الدورة على مدى عشرة أسابيع، تناول فيها موضوع الدراماتورج وبنية القصة الدرامية، إضافة إلى محاور…

ا. د. قاسم المندلاوي

في هذه الحلقة نقدم للقارئ الكريم نبذة مختصرة عن فنانين آخرين، احدهم من غرب كوردستان، الفنان الشهيد يوسف جلبي، الذي تعرض الى ابشع اساليب الاضطهاد والتعذيب من قبل السلطات السورية الظالمة، وخاصة بعد سيطرة نظام البعث سدة الحكم عام 1966. فقد تعرض الكثير من المطربين والملحنين والشعراء الكورد في سوريا…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…