د آلان كيكاني
منذ اشتعال فتيل الجنون في سوريا يسهل عليك تمييز السوري من بين الناس أينما كنت، وأينما كان هذا السوري…
ولو كنت دقيقَ ملاحظةٍ لعرفته من على بعد مئات الأمتار.
لا لرائحة خاصة تميزه كما عند بعض الكائنات.
وليس لسحنة مميزة تخصه كما عند بعض الشعوب.
وإنما لأسباب أخرى …
مثل إطراقة الرأس.
والكآبة البادية على محياه.
وربما لاحمرار عينيه وذبولهما.
ها هو أحدهم…
يقتعد جذع شجرة ميتة في زاوية نائية من هذه الحديقة ويستغرق في التفكير…
أنا على يقين أنه هو.
دفع كل ما يملك حتى وصل إلى هذه المدينة البلغارية تمهيداً للوصول إلى ألمانيا.
حين مررتُ بمحاذاته، خرقتُ الآداب الاجتماعية المتعارفة عليها، وألقيت التحية عليه. فلم يخب ظني. كان بالفعل سورياً.
فزّ من مكانه كمن استفاق من نوم عميق، واصطنع ابتسامة ضحلة، وحياني. ثم انزاح جانباً يدعوني إلى الجلوس بجانبه، وكأنه كان ينتظرني منذ ساعات…
وما هي إلا دقائق حتى فتح غسان، وهذا كان اسمه، قربة آلامه:
“لم تكن السياسة تشغل بالي أبداً… لم أكن مع النظام ولا مع المعارضة، وكان عملي في أرضي التي ورثتها عن أبي ديني وديدني…. أما أن يُقتل ولدي البكر في الجيش، وبعدها بشهر يُقتل أخوه في قصف جوي عشوائي للنظام على البلدة، فهذه أكبر من أن يتحملها إنسانٌ”.
“وذات ليلة شتائية حزينة قلت لزوجتي هيا بنا نهجر البلد علّنا ننقذ ما تبقى لنا من أولاد، فوافقت … وفي صباح اليوم التالي عبرنا الحدود السورية التركية، ورحنا نطوف بعض المدن والأرياف، نبحث عن مأوى، حتى انتهى بنا المطاف إلى مزرعة يملكها رجل أعمال تركي، فاستغلنا هذا شر استغلال… إن شاء رمى علينا ببعض القروش، وإن لم يشأ تركنا دون سند، وإن طالبناه قال لنا إن لم يعجبكم الوضع عودوا إلى بلدكم”.
“لكن حتى هذا الهمّ لم يرض بنا يا دكتور… فذات ليلة دخل علينا ملثمون مسلحون وسلبونا كل شيء: مجوهرات زوجتي وبضع آلاف من الليرات التركية كنا قد ادخرناها للأيام الأكثر سواداً”.
“قررت بعدها الهجرة إلى أوروبا على أمل الاستقرار في ألمانيا ولمّ شمل عائلتي هناك… استودعت زوجتي وأولادي في بيت عديلي في أضنة وبدأت بمحاولاتي … ثلاث مرات أعادتي الشرطة البلغارية من الحدود بالركل والضرب والسب والشتم، وفي الرايعة كُتب لي النجاح, واستقر بي المقام في هذه المدينة، أعمل فيها نادلاً، وانتظر العبور إلى ألمانيا، لكن دون جدوى، فقد مرت ثلاث سنوات وأنا على هذه الحالة… ابنتي الكبرى باتت تعاني من نوبات من الهستريا وأبنائي صاروا يجلبون المشكلة تلو الأخرى لأمهم وخالتهم وعديلي بات يتململ منهم. وأنا هنا حائر في أمري، هل أعود أم أتابع انتظاري؟…”.
وبعد دقيقة من الصمت تابع:
“لو أن الله وهبني إمكانية إصلاح خطأ ما، لعدت خمسين سنة إلى الوراء، إلى الليلة التي ارتكب فيها والدي جريمته، ولقدمت له واقياً ذكريا، ولقلت له أرجوك يا أبي ركّبه، وإذا لا تعرف كيف تركبه فسأركبه لك. فقط لا ترتكب جريمتك”.
واصطنع غسان ضحكة خجولة، لكنه سرعان ما أشاح بوجهه عني وانفجر في نوبة بكاء.