صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “كلّ الأشياء تخلو من الفلسفة” للكاتب والباحث العراقيّ مشهد العلّاف الذي يستعيد معنى الفلسفة في أصلها الأعمق، باعتبارها يقظةً داخل العيش، واصغاءً إلى ما يتسرّب من صمت الوجود.
في هذا الكتاب تتقدّم الفلسفة كأثرٍ للحياة أكثر مما هي تأمّل فيها، وكأنّ الكاتب يعيد تعريفها من خلال تجربته الشخصية الممتدّة بين بغداد وأميركا وإشبيلية، حيث تتشابك الذاكرة بالعزلة، ويتحوّل السؤال الفلسفيّ إلى أسلوب حياةٍ يواجه التبدّد بالوعي، والمحو بالتذكّر.
الكتاب رحلة فكرية وسيرية في آنٍ واحد، يروي فيها العلّاف سيرة وعيٍ تتشكّل في مواجهة الأسطورة والعلم، الروح والمادة، الحرب والمنفى. يتقاطع فيه الذاتي بالجمعي، إذ يستحضر الكاتب بدايات قسم الفلسفة في جامعة بغداد وما رافقه من حلمٍ نهضويّ، قبل أن تعصف به الحروب والأنظمة القامعة، فيتحوّل الحلم الأكاديمي إلى سؤالٍ عن جدوى الفكر في عالمٍ يتسارع نحو المسخ والتقنية.
تتوزّع فصول الكتاب على عدة أقسام، يستعيد فيها الكاتب الروح الفاوستية التي مثّلت ذروة الطموح الغربيّ نحو المعرفة والخلود، ويقابلها بمصير الإنسان الذي استبدل الخلاص بالتجريب اللامحدود. يستحضر أسطورة فاوست لتغدو مرآةً للإنسان المعاصر الذي باع روحه تحت ضغط الوهم العلميّ والسيطرة، وينظر إلى المشهد العراقيّ بوصفه نموذجاً لروحٍ فاوستيةٍ مأسورةٍ بين الإيمان بالعلم وانكسار الحلم.
يفتح مشهد العلاف في عمله تأمّلاً فلسفياً حول العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من خلال أسطورة تيثونوس، الكائن الذي مُنح الخلود ونُزعت عنه القدرة على الموت، فصار يعيش أبديةً خاوية. وتراه يطرح أسئلة عن مصير الكائن حين تبتلعه الآلة ويغدو امتداداً لبرمجياته، وحين يتحوّل العقل إلى وسيطٍ ميكانيكيّ بين الذاكرة والنسيان. تتقاطع هذه الرؤية مع مراجع فكرية حديثة مثل كازينسكي وكروزويل، ومع أسطورة الكهف الأفلاطونيّة التي يعيد الكاتب قراءتها في ضوء التجربة الرقمية الجديدة.
يكتب العلّاف عن الروح المحتجبة في غبار الأرض، عن الفلسفة بوصفها تمريناً على الفناء والسكينة، عن السعادة التي تولد من الكسل حين يتحوّل إلى وعي، وعن القراءة كخلاصٍ من العدم. يمرّ عبر نيتشه وديونيسيوس وجلجامش، ليعيد اكتشاف الأسطورة كذاكرة للروح، وكدليلٍ على أنّ المعنى لا يفنى، إنّما يتحوّل.
الكتاب – يقع في ١٧٤ صفحة من القطع المتوسط – مكتوب بلغةٍ متأنّيةٍ تجمع بين الصرامة الأكاديمية والتوهّج التأمّلي، يتداخل فيه السرد بالتحليل، والشخصيّ بالكونيّ. إنّه عملٌ يوقظ الوعي من غفلته، ويمنح القارئ إحساساً بأنّ الفكر لا ينقذ من الموت، لكنه يجعل الحياة جديرةً بالتأمّل.
تعريف بالمؤلف:
د.مشهد العلّاف أستاذ في فلسفة العلوم والمنطق والأخلاق والدراسات الإسلامية، حاصل على درجة الدكتوراه من الولايات المتحدة الأميركية في الفلسفة الحديثة: العلم والميتافيزيقا، وعلى درجة الماجستير في فلسفة العلم، والبكالوريوس في الفلسفة. وقد درّس في الولايات المتحدة الأمريكية نحو عشرين عاماً في جامعات مرموقة، منها: جامعة واشنطن، جامعة سانت لويس، جامعة ويبستر، وجامعة توليدو.
تركّز أبحاث الدكتور العلّاف على انتقال الأفكار والمفاهيم العلمية والفلسفية عبر الثقافات وأثرها في تشكيل الحضارات، مع اهتمام خاص بإسهامات العرب في الطب والفلك والفلسفة ودورهم في تشكيل عصر النهضة الأوروبي. كما طوّر نظرية القيم الكونية الخمس، وهي إطار فلسفي معاصر للأخلاق قائم على مبادئ فلسفية ودينية. وتتميّز أعماله بالدقة في التحليل المنطقي والتتبع التاريخي للأفكار، مع اعتماد منهجي على المصادر الكلاسيكية والحديثة، والسعي الدائم إلى تجديد البحث الفلسفي وتفعيل الحوار بين الثقافات. وهو مؤلّف لعدد من الأعمال الفلسفية والفكرية، منها:
النصوص الأصلية في الفلسفة الإسلامية من الكندي إلى محمد إقبال، نيويورك (2021)، وقد حاز هذا الكتاب جائزة تقديراً لمساهمته المتميزة في البحث العلمي.
فصل بعنوان المنطق والإيمان بالله في كتاب الإيمان والإلحاد: حجج متقابلة في الفلسفة، تحرير غراهام أوبّي وجوزيف كوترسكي، ماكميلان، 2019.
فصل بعنوان علم الكلام الإسلامي في كتاب عن الدراسات الإسلامية، تحرير الدكتور كلينتون بينيت، بلومزبري، 2013.
فصل بعنوان الاستنساخ البشري: منظور إسلامي في كتاب الإسلام وأخلاقيات البيولوجيا، أنقرة، 2011.
كتاب فلسفة لوك في العلم والميتافيزيقا، نيويورك، 2007.
فلسفة العلم الإجرائية بين آينشتاين وبرجمان (باللغة العربية)، وقد وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب.
من العربية إلى العالم اللاتيني: أثر حضارة العرب في الغرب.
العالم وفلسفتي (2020، باللغة العربية)، وهو مقاربة نقدية لبعض القضايا الفلسفية المتعلقة بالميتافيزيقا، والرؤية الكونية، والإبستمولوجيا، ينتقد فيه فلسفة كانط، وراسل، وسول كريبكه.