الثامنة مساء

آهين أوسو

لم يكن يوما عاديا ،نعم فترة من التوتروالقلق مررنا بها.

إنه آذار المشؤوم كعادته لايحمل سوى الألم .

استيقظت صبيحة ذاك اليوم على حركة غير طبيعية في أصابع يدي ،ماهذا يا إلهي ،أصابعي تتحرك كأنها مخلوقات حية تحاول الهروب من تحت اللحاف ،هممت بالجلوس في فراشي اتحسس يدي ،نعم إنها أصابعي التي تتحرك لاشيء آخر ،تتحرك بلا حول مني ولا قوة ،بعض الأمور توحي بقدوم أحداث سيئة هذا ما اعتدنا على سماعه من كبار السن ،رجفة الخد ،رفة العين ،طنين الأذن أما عن حركة الأصابع اللا إرادية فهي إضافة شخصية مني حين شعرت أن أمرا جللا سيحدث .

جرس الباب يدق إنها عمتي .

–        اهلا (متكي) عمتي …..

ملامحها تبشر بالخير.

وبصوت يملؤه الكثير من الفرح والكثير الكثير من الأسى والألم

–        عمكم بخيرأنا عائدة الآن من بيته وقد أخبرني أنه بخير وأنه نام مايقارب الساعتين ليلة البارحة .

عمي الذي مضى على عدم قدرته على النوم لأكثر من بضع دقائق شهران أو أكثر يقضي ليله ونهاره غير قادر على النوم من شدة الألم الذي أصبح ملازمه منذ سنتين بعد إجراء عملية استئصال ورم سرطاني من رئته .

بادرت عمتي بقبلات على وجنتيها .

–        هل صحيح ماتقولين أم أنك فقط تبعثين فينا الأمل

–        والله يا ابنتي كنت عنده قبل قليل وقد أخبرني أن آلامه زالت بنسبة ٨٠ بالمئة وقال أن طبيبه قام بثقب ظهره ليضع المخدر بشكل مباشر على النخاع الشوكي حتى يرتاح قليلا .

ماهذه الأخبار التي تبعث على السعادة ،شعرت بروحي ترقص فرحا ،وفي أجزاء من الثانية تراودت إلى ذهني عشرات الأسئلة

هل سيستطيع عمي النوم مجددا كما كان ؟

هل سيتحسن وضعه الصحي مع النوم ؟

هل سيعود للمشي للأكل للجلوس للكتابة كما اعتاد ؟

قررت حينها أن أرتدي ثيابي وأذهب لآراه .

لكن لحظة …..أخاف أن أذهب ويكون نائما فأكون السبب في إزعاجه ،سأنتظر حتى المساء حينها يكون قد أخذ قسطا كافيا من النوم ،لابل أنتظر للصباح فالصباح رباح كما يقال .

ومع حلول الصبح يرن جرس الهاتف لتخبرني أختي الصغرى أن أبي لم يفارق عمي ليلة ولم يعد للبيت وأن هناك مايدعو للقلق لأنه اتصل على أمي وطلب منها اللحاق به إلى منزل عمي .

نزل الخبر علي كالصاعقة ،الأمر لايحتاج إلى الكثير من الفهلوية والذكاء …..عمي ليس بخير .

اتصلت على أبي

–        ها بابا أين أنت ؟

–        أنا في منزل عمك .

–        كيف حاله ؟

–        بخير يا ابنتي

–        بابا (قربان ) أخبرني الحقيقة أنا أعلم أن عمي ليس بخير.

–        لاتقلقي سيكون بخير بعون الله .

أغلقت الهاتف وتوجهت إلى منزل عمي .

الطابق الثالث عال جدا ،لم أشعر بعلوه هكذا من قبل ،شعرت أن قدمي ماعادت قادرة على حملي ،في كل درج تخطر لي قصة وخيالي يشطح بعيدا جدا ،مع كل خطوة اخطوها الخوف يشل حركتي .

آاااااااه  أتمنى أن اكون مخطئة .

وصلت إلى باب المنزل ماهذا الكم الهائل من الأحذية ،هل أخطأت العنوان وتوجهت إلى مسجد الحي .

قمت برن الجرس وفتح الباب أمامي وكأنه يفتح للمرة الأولى .

تثاقلت خطواتي أكثر فأكثر ،شعرت بسلاسل حديدية تقيدني وأنا أسير نحو سريره .

رائحته تملأ المكان ،الرائحة التي طالما تعودنا عليها وهو يحضننا ويقبلنا .

صمت مخيف يخيم على المكان على الرغم من الجمع الغفير الذي يجلس في غرف المنزل .

أبي : لماذا جئت ؟

-لم أستطع الصبر

-والله يا ابنتي لم أكن أريد أن تروا عمكم في هذا الوضع ،عمكم منذ ليلة البارحة لم يفارقه الألم ثانية واحدة ،إنه يتألم بشكل غير طبيعي ،وضعه مأساوي ،لانستطيع فعل شيء حيال وضعه ،إننا نتألم بألمه لاحول لنا ولا قوة ،أمر الله قد حان عمك يعيش ساعاته الأخيرة والله أعلم .

– لكن عمتي أخبرتني أنه تحسن ونام مايقارب الساعتين وأن آلامه زالت بنسبة ٨٠ بالمئة .

– كان الأمر مؤقتا ولم يدم طويلا .

اقتربت من سريره ،نظر إلي كعادته بتلك النظرات التي تملؤها الطيبة والكثييييييييير جدا من الحب .

لم يكن قادرا على تحريك رأسه أو رفعه أو تحريك جسده المتقرح من طول بقائه على السرير ،سنتان وجسده النحيل لم يفارق السرير حتى فقد القدرة على تحريك أي جزء من جسده بسبب الألم الذي يشعر به في عظامه ،إنه السرطان لم يرحم جسده الهزيل بدأ من الرئة لينتهي في العظام .

جلست بالقرب من سريره وأنا غير قادرة على التكلم شعرت بضيق في التنفس وتسارع في نبضات قلبي ،أحسست أنه سيغمى علي في أي لحظة ،تماسكت قليلا وأخذت نفسا عميقا .

الجميع جالس في صمت مريع ،أمي ،أبي ،اخوتي ،أعمامي ،عمتي وجميع اولادهم .

لقد أخبر أبي أنه يريد رؤية الجميع لأنه يشعر بدنو أجله .

لاصوت يكسر الصمت سوا دقات الساعة التي تعلو سريره .

–        قدماي … حركوا قدمي .

جلست على حافة السرير مقتربة من قدميه .

أمر غريب ،كيف يمكنني أن احرك قدميه وهو يمانع منذ أشهر من لمس أي جزء من جسده حتى لا يتألم .

لكنني لم أستطع الرفض ،قمت بالكثير من الخوف بلمس قدميه وتحريكهما .

–        هل هذا يؤلمك ؟

–        لا لا ،لاتخافي ماعدت أشعر بالألم ، الروح تخرج من جسدي قليلا قليلا ،لطالما أخبرونا  أن الروح تهجر الجسد تدريجيا من الأقدام طلوعا لتخرج من الأنف .

–        أرجوك لاتقل هذا .

–        إنه أمر الله ،لطالما طلبت من ربي ألا يحملني فوق طاقتي ،أنا مؤمن أن الله وجدني قادرا على تحمل هذا المرض .

عاد الصمت والهدوء ليعم الغرفة ،شهقات وبكاء ونحيب في المطبخ ،بعضهن لم يستطعن التحمل .

–        كم الساعة ؟

–        إنها الواحدة ظهرا .

–        لايزال هناك متسع من الوقت .

علامات الاستغراب ارتسمت على الوجوه .

نظر إلينا جميعا وبصوت هادئ طلب منا السماح لأنه سيغادر هذا العالم في وقت قريب .

تكرر سؤاله عن الوقت أربع مرات او خمس وفي المرة الأخيرة قال : ألم تحن الساعة الثامنة بعد ؟

حينها كانت الثامنة إلا ربع .

سؤاله عن الساعة لفت أنظار الجميع ،إلحاحه على معرفة الوقت ، وكأن موعدا مهما ينتظره .

لم يترك يد زوجته لحظة واحدة ،كانت كلما همت للقيام بعمل ما نظر إليها وكأنه يطلب منها عدم الابتعاد عنه وعدم ترك يده .

الساعة تشير إلى الثامنة إلا عشر دقائق .

بعد الكثير من التعب والإعياء جلست زوجته على الكرسي المقابل ووضعت يدها على جبهتها ،لم تكن سوى تلك اللحظة ،بضع دقائق فقط كانت كفيلة بأن يتمكن ملك الموت من النيل منه وسحب روحه بعد أن تركت زوجته يده وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة التي يقومان فيها بترك يد بعضهما البعض .

عبد الرزاااااااااااااااق …. كانت أول صرخة في الثامنة تماما .

الثامنة مساء كان موعده مع الموت ،سؤاله عن الساعة لم يكن من فراغ ،هو ذاته الموعد المهم الذي كان ينتظره منذ الصباح .

خصلات من شعره لازالت داخل منديل أبيض داخل ألبوم الصور ،هي الخصلات التي تمكن منها الكيماوي سقطت في يدي وأنا أمسح على رأسه قبل وداعه إلى مثواه الأخير دكشوري قريته وجنته الصغيرة التي طالما طلب أن يدفن فيها .

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أحمد آلوجي

من بين الشخصيات العامودية التي تركت بصمة عميقة في ذاكرتي، أولئك الذين منحوا فنهم جلَّ اهتمامهم وإبداعهم، لا سيّما في المناسبات القومية واحتفالات نوروز التي كانت دائمًا رمزًا للتجدد والحياة. ويبرز بينهم الراحل الفذ مصطفى خانو، الذي أغنى المسرح الكردي بعطائه وإحساسه الفني الرفيع، فاستطاع أن يجذب الجماهير بموهبته الصادقة وحبه الكبير…

(ولاتي مه – خاص):
على امتداد أكثر من خمسة عقود، يمضي الفنان والمناضل شفكر هوفاك في مسيرة حافلة تجمع بين الكلمة الثورية واللحن الصادق، ليغدو أحد أبرز الأصوات التي عبرت بصدق عن آلام الشعب الكردي وأحلامه بالحرية والكرامة.
منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، ظل شفكر وفيا لنهجه…

ماهين شيخاني

في فجرٍ بعيدٍ من فجر الأساطير، خرج رستم، بطل الممالك الفارسية، في رحلة صيدٍ طويلة. ضلّ طريقه بين الجبال حتى وجد نفسه في مدينة «سمنغان»، حيث استضافه الملك في قصره. هناك التقى بالأميرة تَهمينه، فتاةٌ تفيض حُسنًا وشجاعة، قالت له بصوتٍ يقطر صدقًا:

«يا رستم، جئتُ أطلب من البطل ولداً مثله، لا كنزاً…

إبراهيم اليوسف

لم يكن إصدار رواية” إثر واجم” في مطلع العام عام 2025 عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، مجرّد إعلان عن عمل سردي جديد، بل ولادة مشروع روائية- كما نرى- تُدخل إلى المشهد الروائي صوتاً لم يُسمع بعد. هذه الرواية التي تشكّل باكورة أعمال الكاتبة الكردية مثال سليمان، لا تستعير خلالها أدواتها من سواها، ولا تحاكي أسلوباً…